[الوقفة الأولى: الانتقال من الغفلة إلى الذكر]
لدينا غفلة عن الأعمال وفضائلها، يفسرها انحسار الاقبال على بيوت الله وزيادتها في مقابل ذلك في رمضان، وكأننا لا نعرف أو لا نذكر، أو كأننا نغفل عن كثير وكثير وكثير من النصوص المحفوظة في فضائل الأجر، وثواب الصلاة، وشهود الجماعات وغير ذلك.
كل خطوة تسعى إلى بيت الله عز وجل تحط خطيئة، وتكتب حسنة، وترفع درجة، وما تزال الملائكة تدعو وتستغفر للمصلي في مصلاه حتى ينصرف، وما تزال في صلاة ما دامت الصلاة تحبسك، ثم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
غفلة كبيرة عن هذا لكثير ممن لا يشهدون الجماعات إلا في هذا الشهر الكريم، وكأنما هو سحابة صيف تمر ثم تنقشع، فإذا بهم عن المساجد يدبرون، وإذا بهم عن بيوت الله عز وجل يفرون، وهذه صورة واضحة من صور التغيير.
وغفلة كذلك عن فضائل الزمان، وكأننا لا نعلم قول الله عز وجل الذي مدح فيه عباده بأنهم يستغفرون بالأسحار، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إذا بقي الثلث الأخير من الليل ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه) وذلك الدهر كله.
وكلنا أيضاً يعلم حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام فيمن يبقى بعد الفجر في مصلاه حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح ثم يصلي ركعتين فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.
أين هذه الفضائل في واقع أيامنا المتتاليات؟ تكاد تكون من المنسيات، ويحيا ذكرها ويعود الاعتبار بها والاغتنام لها والحرص عليها في هذا الشهر الكريم.
غفلة حتى عن فضائل الأماكن فمكة لا تبعد عن بعض الناس إلا ساعة من الزمان، غير أن قلة قليلة هي التي تتعهد البيت بالزيارة بين فينة وأخرى، وتعتمر أو تطوف بين وقت وآخر، فإذا جاء الشهر تغير الحال، وزادت الأشواق، وتعلقت النفوس بالأجر، وذكرت فضيلة عمرة كحجة، وغير ذلك مما نعلمه.
كثيرة هي صور الغفلة التي نراها في واقعنا، وصور الذكر التي تهب علينا نسائمه مع حلول شهر رمضان، وتلك أمور محمودة مرغوبة تسر كل مؤمن، وتشرح الصدر، ولا شك في الوقت نفسه أن ثمة ما ينقضها أو يغيرها أو يؤثر فيها سلباً وللأسف الشديد.
نجد أن هذا الشهر الكريم هو واحد من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه، وشعيرة من شعائره التي جعل الله سبحانه وتعالى لها حكماً جليلة، وفوائد عظيمة، وجعل لها خصائص، كما رأينا في اختصاص رمضان بالقرآن، وسنرى كذلك اختصاصه بغيره من الأمور والأحوال، غير أنا نرى أمراً يحز في النفس ويؤلمها ويحزنها.
فإنه مع هذا القصد الواضح، والحكمة الظاهرة في مسألة الذكر والتذكر والتحفز لهذه الخيرات ثمة من يتفرغ ويعد ويجهز لكي يقضي على ذلك الذكر ويعمم الغفلة من جديد، ويوجد لها قوالب وبرامج تهدف إلى أن تغطي على العقول، وتطمس على القلوب، وتخمد نار الأشواق الإيمانية في النفوس.
إنها وسائل الإعلام، تأتينا بآلاف وآلاف من المسابقات التي في كثير منها ليس لها ارتباط بهذا الشهر وفضائله وأعماله ومآثره وتاريخه، وهي لا تأتي كمسابقات عادية كما يقال، بل تأتي ببهرجها وفتنتها، ونسائها وعريها، ورقصها وغنائها، بل مع ما فيها من الحرام الذي لا شك في حرمته من وسائل الاتصال التي تتصل بها، فتأخذ منك الأموال، وتأخذ من غيرك، ثم تقسم الجوائز من هذه الأموال في قمار معلن على الشاشات، وظاهر على الصفحات، مكتوب بالأرقام، يتسابق إليه كثير من الناس ليعودوا من بعد الذكر إلى الغفلة.
وهناك مسلسلات متتابعة مخصصة لهذا الشهر، لا تأتي إلا فيه ولا تعد إلا له، بل إنه -والعياذ بالله- قد نشر في الصحافة مسلسلات خاصة برمضان، وهي تهدف إلى انتقاد الدين والتدين، وتهدف إلى التحذير من الإقبال على الله عز وجل والارتباط بطاعته.
في ضمن هذه الموجة الهوجاء العمياء الغبية التي يراد بها -كما يزعم بعض المتصدرين في تلك الوسائل الإعلامية- ردم أو تجفيف منابع الإرهاب، وما عرفوا أنهم بهذا يحاربون أصل الدين في أصله؛ لأننا نسمع وللأسف الشديد عن عناوين لهذه المسلسلات، وهي عناوين من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن كان المضمون في ذاته صحيحاً في بعض وجوه النقد فلِمَ نربطها بهذه الأسماء الشريفة؟ ولِمَ نسمي هذه المسلسلات بأسماء تلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرها في أحاديثه، وجعلها من الأمور التي نؤمن ونصدق ونوقن بها وتتعلق بها قلوبنا ونفوسنا؟ والحديث ليس فيه مجال وسعة في هذه الأبواب، غير أنا نقول: إن رمضان يذكّر، وإن رمضان يحفز، وإن وسائل الإعلام كأنما تواجه وتعارض وتصد، فاختر لنفسك إن كنت تريد أن تكون مع الصائمين الذاكرين، أو مع الصائمين الغافلين اللاهين من قناة إلى أخرى، ومن مسلسل إلى ثان، ومن مسابقة إلى أخرى، وغير ذلك من الأمور التي يشغلون بها الناس، فلا تفرغ أوقاتهم لتلاوة كتاب ربهم ولا للمكوث في بيوت الله عز وجل، ولا لسماع الذكر والموعظة.
نحن في شهر ننتظر فيه أن نقطع كل أسباب الغفلة حتى نهيئ القلوب والنفوس لتقبل على الله عز وجل لتحيا من بعد موات، ولتنشط من بعد ضعف، ولتتذكر من بعد غفلة، ولتشرق فيها الأنوار بعد أن ضرب عليها الران؛ لأننا في أيامنا وليالينا الماضيات، في أوقاتنا المتتاليات ليس لنا حظ ونصيب وزاد من هذه الخيرات.
كما هو في هذا الشهر، فلا يراد لنا أن نغتنم الخيرات، ولا أن نتزود بهذه الطاعات لنقاوم ما سلف من الغفلات، بل يراد لنا مرة أخرى أن نغرق في أوحال الشهوات، فالصباح تسمع القرآن يتلى في الإذاعات، وترى -إن رأيت- شاشة وهي من برنامج فتوى إلى برنامج موعظة إلى غير ذلك، فإذا غربت الشمس وإذا انتهى النهار رأيت الليل وما فيه.
أي تناقض هذا؟! وأي عبادة هذه؟! وأي استقبال لشهرنا ونحن نرى تلك الإعلانات تترى عن تلك البرامج فيما يستقبل من الأيام؟