وكنز آخر في هذا الشهر الكريم الذي ننتظره يحتاج إلى تأمل، وهو كنز الصلاة والقيام.
فهي سمة بارزة، وشعيرة ظاهرة، وأمر ملفت يميز هذا الشهر الذي ننتظره، كثرة الصلاة، عمران المساجد، المسارعة إلى الصفوف الأولى، إحياء الليل وقيامه بالتراويح، واستمرار ذلك في الأواخر إلى انشقاق الفجر، صورة بديعة رائعة تدلنا على أثر في القلوب والنفوس، وعلى تغير ينبغي أن نحرص عليه وأن نعمقه ونزيده، وأن نثبته في واقع حياتنا، ذلك الأثر المهم {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:٧٩]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
ولست أريد أن أنظر إلى الجانب المظلم، ولكني أشير إلى هذه الوقائع، قال تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت:٤٥]، فهل واقع الأفراد وواقع حياتنا كمجتمعات وواقع أمتنا كدول ورقعة مترامية الأطراف يشهد هذا الانتهاء عن المنكر سواء في الأمور الشخصية أو في الأمور الكلية؟ هذا موضع تأمل وتدبر نحتاج إليه، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:٢٣٨]، المحافظة تعني القيام بالأركان، والأداء للواجبات، والحرص على السنن، والإتيان بجوهر العبادة خشوعاً في القلب وتدبراً بالعقل وخضوعاً بالجوارح واستمراراً للتطهر، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:(أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالو: لا يا رسول الله.
قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، ومرةً أخرى نقف مع قوله جل وعلا:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}[البقرة:٤٥]، وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
وإن الأمر هنا دلالة واضحة على أن مواجهة الكروب ومجابهة الخطوب لا تكون إلا بالرجوع إلى الله، والاستعانة به، ومد حبال الوصل معه، ورفع أكف الضراعة إليه، وإخضاع الجباه سجوداً فيه التعظيم والخضوع له، ليس كلما ادلهمت الخطوب لجأنا إلى الشرق والغرب، والتمسنا أنظمةً دولية ومعاهدات عالمية؛ فإن هذا المسلك هو الذي فرق الأمة وأضعفها، وجعلها في ذيل القافلة، وجعلها في غاية الذل، يطلب منها اليوم أمر ويقال: هو المنتهى.
فإذا أجابت جاء بعد الأمر ثان وثالث، وأصبحت الأمور كأن لا تصور لمنتهاها، وكأننا في يوم من الأيام -لا على سبيل المبالغة، ولكن على سبيل المعنى الذي يصور المآلات الخطيرة- قد تقرأ فيه التوراة في المحاريب، لشدة التغلغل الذي يسري في أوطاننا وديارنا وعالمنا الإسلامي إلا ما رحم الله عز وجل، ولعلنا نتذكر هذا المعنى عندما تستمع لقوله جل وعلا:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ}[المائدة:٩١]، وليس بالضرورة أن ننظر إلى الخمر المعروفة، فاليوم خمور مختلفة، خمر العولمة، خمر العصرانية، خمر الزمن الذي لا بد من مراعاته، والظروف التي لا بد من موفقتها، هذه خمر لعبت برءوس الكثيرين فصاروا يتكلمون ويقررون ويحكمون بأمور تتناقض وتتعارض مع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعلي أختم هذا الكلام بتذكير لنفسي ولك ننظر فيه إلى الفوارق الكبيرة.
فقبل نحو خمسة عشر عاماً- ولعل الزمان يعتبر ليس بقصير- وقفت في خطبة ذرفت فيها دمعة حزن من أجل فلسطين، يوم كان مؤتمر مدريد، واليوم لعلي أجد أن الدمعة شحيحة ليست كذلك الوقت، وأجد أن حزن قلبي وأسى نفسي لا يبلغ مبلغه كما كان؛ لأن التدجين والتهجين والتطبيع يسري إلى نفوسنا، لم نعد اليوم نسمع في الأخبار تلك المصطلحات، مصطلح (العدو)، ومصطلحات الهجوم، ومصطلح (الكيان الغاصب)، أصبحنا اليوم نستمع إلى أمور أخرى، وأصبحنا نرى صوراً ما كنا نراها، حتى ألفت ذلك العيون وتقبلته النفوس.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وغيرتنا وعزتنا، وأن يقينا الشرور والآثام، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.