للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقدمة عن الإغراق المادي والإشراق الروحاني]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على جزيل نعمه، ووافر عطائه وعظيم كرمه ومنه سبحانه وتعالى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، ونحن معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.

أما بعد: فإن موضوع (إغراق وإشراق) تفصيله إغراق المادية وإشراق الروحانية.

والحقيقة أن هذا الموضوع متعدد الجوانب، وفيه كثير من المتاعب، وكذلك فيه دقة وتأكيد على صواب ينبغي أن يخلص من خطأ لا يطغى على الصواب، فهو لذلك كنوع من استخلاص شيء مشتبك بأشياء أخرى كثيرة، ومن هنا لابد من أن يكون التعبير والنقل والبيان واضحاً وجلياً؛ لئلا يكون هناك التباس في فهم أو خلط بين قول وقول.

وتقدمة لهذا الموضوع فإننا نعلم جميعاً أن هذا الإنسان مخلوق من قبضة طين ونفخة روح: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:٢٨ - ٢٩].

فأصل الإنسان من هذين الشقين، وبالنظر إليهما نجد أن أحدهما شق مادي أرضي، والآخر شق روحاني علوي، ومن هنا كان لكل شق ما يناسبه من غذائه وما يهذبه من أحكامه، فغذاء البدن من جنس الأرض والطين الذي خلق منه من الزروع والثمار والحيوانات والطعام والشراب مما سخر الله سبحانه وتعالى ويسر في هذه الأرض.

وكذلك الأحكام تناسب هذا البدن، فنجد قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، ونجد الأحكام التفصيلية تراعي مثل هذا: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

وإذا نظرنا إلى الشق الثاني فإننا نجد أيضاً أن غذاء الروح هو أيضاً من جنس خلقتها؛ لأنها كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥]، فلما كانت هي من أمر الله ومن سر الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق وهذا الوجود فكذلك غذاؤها لا يكون إلا من جنس أصل خلقتها، فهو غذاء رباني من وحي الله سبحانه وتعالى ومن كتاب سبحانه وتعالى، ومن التعلق بالله سبحانه وتعالى، ومن المحبة لله سبحانه وتعالى، إلى آخر ما هو معلوم في هذا الباب مما سيرد ذكر بعض منه بعون الله تعالى.

وكذلك أحكامها إن تأملنا فسنجد أنها تناسب هذا الأمر وتتوافق معه، فليست فيها تلك الأحكام المادية البحته، فإن أمر الرؤى والأحلام، وإن أمر الكشف والإلهام، وإن أموراً مما يلحق بهذا لها حكم يتناسب معها ليس آخذاً صفة المادية البحتة، بل هو مواكب وموافق للروحانية.

ومن هذا المنطلق عندنا جانبان: الجانب المادي، والجانب الروحي.

فالإغراق في المادية يطفئ أنوار الروحانية، والغلو في الروحانية يغلق الناحية البدنية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

والتوسط هو الهدي المستقيم، وهو الشرع الحكيم الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم.

وهذا كلام مجمل يوضح المعنى الإجمالي لهذا الموضوع الذي نتحدث عنه، ولذلك قال العلماء من أمثال ابن القيم وابن تيمية كلاماً في مثل هذا الشأن يوضح هذه المقدمة ويبينها.

فـ ابن القيم على سبيل المثال يقول: اللذات ثلاث: لذة جسمانية، ولذة خيالة وهمية، ولذة عقلية روحانية.

فأما اللذة الجسمانية فهي لذة الأكل والشراب والجماع، ويشترك فيها الإنسان والحيوان، وتحصيل هذه اللذة لا يؤدي إلى كمال الإنسان؛ لأن أنقص الحيوانات يحصلها.

فلو كان كمال الإنسان بكثرة الطعام والشراب والمبالغة أو المسابقة في هذا الشأن لكان كلما ازداد في هذا الشأن كلما اتصف بالحيوانية، بل بأدنى مراتب الحيوانية؛ لأن من الحيوانات الوضيعة ما يكون في هذا الجانب مبرزاً أو سابقاً.

وأما اللذة الوهمية الخيالية فلذة الرئاسة والتعاظم على الخلق.

ويقصد بها ما يتعلق بالنفس من الأمراض من عجب أو تكبر، ففيها لذة في حقيقة الأمر، وفيها نوع من الفرح والسرور، وفيها نوع من حصول طمأنينة النفس المتوهمة، أو استقرار يظنه صاحبه كذلك، ولكنه على الحقيقة ليس كذلك، وقد فقه أهل الإيمان ذلك، ومن ذلك مثال يذكره ابن القيم عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه مشى مرة فمشى خلفه بعض الناس، فقال: هل لكم من سؤال تسألونه أو حاجة تطلبونها؟ قالوا: لا.

ولكنا أحببنا أن نسير معك -موكب وحفاوة ونوع مما نسميه نحن البهرج والاتباع والالتفاف- فقال: لا تفعلوا؛ فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع).

ذلة للتابع لا تتناسب مع كرامة الإنسان، وفتنة للمتبوع يستعلي بها على الخلق، ويظن أنه قد ارتقى مرتقىً لا يبلغه أحد، وهذا من سفه العقل ومن حمق الإنسان، حينما يظن أنه من الممكن أن يفارق البشر ويرتفع عنهم بشيء مما يتعلق بهذه التوهمات والتخرصات.

ولذلك كان عتب أهل العلم والإيمان ونقدهم في هذا الباب جميل وقوي، فهذا أحدهم يقول حينما رأى أحد الأمراء وهو يزدهي ويفتخر فقال: علام هذا؟ ما أنت في أولك إلا نطفة مذرة، وفي آخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بينهما تحمل العذرة.

أي: الفضلات.

أكرمك الله.

فلا موجب للتكبر، والقرآن بين هذا بياناً شافياً، فقال سبحانه وتعالى في شأن المتكبر: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:٣٧].

مهما مشى المتكبر فله مشيتان: إما أن يدك الأرض دكاً، وإما أن يترفع فيمشي كالطاووس منتشياً على أطراف أقدامه.

والقرآن بين أنك مهما بالغت في هذه المشية فإنك لن تخرق الأرض، ومهما بالغت تطاولاً فإنك لن تبلغ الجبال طولاً، فلتعرف قدرك.

ولذلك قال أبو العلاء المعري: خفف الوطأ ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد يعني: على مهلك عندما تمشي؛ فإن هذه الأرض غداً ستكون أنت من ترابها الذي يوطأ.

فإذاً هذه لذة قال عنها ابن القيم رحمة الله عليه: وطلاب هذه اللذة أشرف نفوساً من طلاب الأولى، ولو أنهم ليسوا على الكمال المطلوب، لكن آلامها أعظم من التذاذ النفس بها؛ لأن صاحبها قد نصب نفسه لمعاداة كل من تعاظم عليهم، فهذا يغتابه، وهذا يحسده، وهذا يتربص به، وهو في ذلك على خوف على نفسه ونحو ذلك مما لا يحقق لذة من اللذة التي يطلبها العبد.

وأما اللذة العقلية الروحانية فهي لذة المعرفة والعلم والاتصاف بصفات الكمال، من كرم وجود وعفة وشجاعة وصبر وحلم ومروءه ومعرفة الله ومحبته.

قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها.

فقيل له: وما هو؟ قال: محبة الله والإنس به والشوق إلى لقائه ومعرفة أسمائه وصفاته.

فهذه اللذة هي التي يسعى الإنسان إلى الكمال فيها ويسعى إلى تحصيلها، وهي التي بها يقع التوازن ويقع العلو والشرف للإنسان، وسيتضح هذا حينما نفصل الآن المدرستين أو الجانبين، سنتحدث عن إغراق المادية وصورها، ثم عن إشراق الروحانية وصورها، وفي كل يقع خلل بين غلو وتفريط وبين إجحاف وإفراط، لأن هذا هو حال ما يقع فيه الالتباس حينما لا يكون الإنسان ملتزماً بنهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.