فانتبه لهذه المعاني، وتأمل ذلك الحديث النبوي الذي أخرجه البخاري وغيره عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، فجاء رجل من الأعراب والرسول ماض في حديثه، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال بعض الصحابة: فكأنما كره قوله، وقال بعضهم: كره أن يقطع حديثه، فلما فرغ من حديثه قال:(أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فتلك إضاعتها).
وفي لفظ ورواية عند البخاري:(إذا أسند الأمر إلى غير أهله).
عجباً! أنّا لا نلتفت إلى الخطر المحدق بنا وإلى الآيات والعلامات الدالة على قرب القيامة ووجود آخر الزمان، مع أن الناس قد شغلوا بأمور أخرى من هذا في شأن بعض الصفات والأوصاف والمعارك وغيرها، ولم يلتفتوا إلى المعاني، فضياع الأمانة دلالة من دلالات آخر الزمان كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فعجباً لنا ونحن لا نلتفت إلى هذا! قال ابن بطال في شرح الحديث: إن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله إياها.
وروى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه في شأن الأمانة وضياعها وغيابها، وهو حديث طويل جاء فيه:(فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أظرفه! ما أعقله! ما أجلده! وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)، أليس مثل هذا الوصف يصدق في أحوال كثير وكثير من بلادنا ومجتمعاتنا الإسلامية؟ ألسنا اليوم نتبايع فلا يكاد أحد يأمن أحداً في وفائه وأمانته وصدقه وبره وإنصافه؟ ألسنا اليوم قد نبحث عن الأمناء فلا نكاد نحصي إلا الواحد أو الاثنين في الفئام من الناس أو في القبيلة أو في القوم؟ أليس هذا الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً في المدح والثناء على من ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وتجده قد ضيع الأمانة، وأخذ حقوق الناس، وانتهب أموالهم، واستباح ما حرم عليه من حقوقهم، وضيع أماناتهم؟ ومع ذلك هو المشار إليه بالبنان، الممدوح بعظيم الصفات على كل لسان، أليس ذلك دليلاً على خلل كبير في الإيمان لا يخص أفراداً بأعيانهم بل يعم أحوالنا ومجتمعاتنا إلا ما رحم الله ومن رحم الله؟ نسأل الله عز وجل أن يرحمنا.
قال ابن التين في هذا الحديث: الأمانة: كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله.
فالآخذ للرشوة والقابل للهدية المغموسة بالحرام يحتاط لنفسه، ويجعل الأمر في أشد صور الخفاء، ولا يجعل هناك وثيقة تدينه، ويحسب لكل قضية حسابها، ويضيع حساب الأمر الأعظم، وهو أن الله مطلع عليه وعالم به وكاتب عليه كل صغيرة وكبيرة من أقواله وأعماله، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول:(من اغتصب قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، ويقول عليه الصلاة والسلام:(إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من صاحبه، فأقضي له بنحو مما أسمع -أي: يقدم بينات ويقدم أقوالاً يكون الحكم فيها لصالحه وهو على غير حق- فمن اقتطعت له شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار، فليأخذ أو ليدع)، فكل ريال تأخذه حراماً فهو قطعة من جنهم، وإن رشيت به فقبلت به فاستكثر؛ فإنما تستكثر -والعياذ بالله- سيئات مضاعفة، وإنما تستكثر عذاباً منتظراً، نسأل الله عز وجل السلامة.
كم في واقع حياتنا وفي واقع حياة كل فرد منا شبهات في معاملاته المالية! فهل توقف عندها، وتحرى فيها؟ وهل راقب الله جل وعلا فترك عرض الدنيا وزينتها وزخرفها إيثاراً للآخرة الأبقى والأعظم جزاءً وثواباً أم أن الإيمان قد ضعف حتى صار أمر الآخرة ونعيمها نسياً منسياً، وأمر الدنيا وزخرفها هو الذي ملأ القلوب والعقول والأبصار فلا تسمع إلا ما يرغب فيها، ولا تقول إلا ما يؤدي إليها، ولا ترغب إلا فيما يزيد منها؟