[موقف عمر رضي الله عنه من الأراضي التي ملكها المسلمون بعد فتحها]
ولما فتحت هذه البلاد رأى عمر الخير يأتي من جوانبها كلها، فرأى عمر رضي الله عنه أن هذا المال وهذا العطاء حق للمسلمين، وكان ينظر نظراً بعيد المدى، لا ينظر إلى اليوم والغد فقط، وإنما ينظر إلى الأمة الإسلامية في شتى الأصقاع، وينظر إلى الأجيال التي ستأتي من بعده، فلما فتحت أرض العراق، وكان الشأن أن الأرض والسبي توزع على المقاتلين بحسب بلائهم وبحسب مشاركتهم في الجهاد، لكن عمر رأى أن هذا الفتح أعظم من أن يقسم بين أولئك الجند وحدهم، ثم لا يكون نصيب ولا شيء لسائر الأمة ولا لمن يأتي بعدهم، فماذا صنع عمر؟ لم يستبد برأيه، وإنما جمع أهل الشورى وطرح رأيه مستنبطاً بفقه دقيق عميق من كتاب الله عز وجل، لينظر إلى مصلحة الأمة، وليؤسس لها أسساً تفيدها وتنفعها في قوتها ورخائها وعزتها، قال عمر رضي الله عنه مستنبطاً من كتاب الله عز وجل أن هذه الأرض يرى عمر أن تكون وقفاً لعموم الأمة الإسلامية في عصره والعصور من بعده، وأن يقر أهلها عليها، فلا يكونون من السبي؛ حتى يؤدوا الجزية، ويعطوا الخراج أيضاً، ورأي عمر هذا استنبطه من كتاب الله؛ قال: يقول الله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الحشر:٧]، هذا أمر الفيء بعامته، قال: ثم خص الله به الفقراء من المهاجرين، ففي قوله جل وعلا:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحشر:٨]، ثم يقول عمر: ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم أي: بالمهاجرين غيرهم، فقال:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:٩]، ثم قال: وهؤلاء هم الأنصار فيما نعلم، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال جل وعلا:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:١٠]، قال: فكانت هذه عامة للمسلمين وللمقاتلين وغيرهم، كيف أقسمها بينهم؟ أيأتي من بعدهم فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت؟ نظر عمر هذا النظر فخالفه بعض الصحابة، وخالفه بعض من كان من المقاتلين، وقالوا: حقنا يا أمير المؤمنين! فأعطنا إياه، فاستشار عمر، وما زال يستشير؛ حتى جمع جمعاً من الأنصار من الأوس والخزرج وقال لهم مقرراً كل الحقائق التي أشرت إليها من العدالة والحرية والمساواة والشورى، قال قولاً بسط فيه الرأي لهم، وسطر فيه ما رأى من الخير للأمة، فقال رضي الله عنه وأرضاه:(إني لم أجمعكم إلا لتشتركوا معي في أمانتي التي حملت، وإني واحد منكم كأحدكم، وأنتم الذين تقرون بالحق خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فقالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين! فقال: سمعتم كلام هؤلاء الذين يقولون: إني ظلمتهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أرتكب ظلماً، ولئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت)، ثم شرح ما سبق أن أسلفته من الآيات، قال: ورأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها -أي: على المسلمين كلهم- لتكون وقفاً لهم، وأضع عليهم فيها الخراج -أي: على الأرض- وعلى رقابهم الجزية، فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور -أي: البلاد التي على حدود بلاد المسلمين- لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن -البصرة والكوفة ونحوها- لابد من شحنها بالجند، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يُعطى هؤلاء إذا اقتسم هؤلاء؟ فأجمع الصحابة على رأي عمر فأمضاه، وكان الخير تلو الخير في ذلك، كما سنذكر بعد.
فهذا باب من أبواب التنمية في الفتوحات وما كان فيها من الغنائم وما جعله عمر وقفاً على الأمة الإسلامية.