فأول الأمر وبدايته: الإيمان بالله خالصاً له سبحانه وتعالى، والتوحيد له نقياً من كل شائبة، ولعلنا هنا نقف وقفات عديدة؛ لأن الناس يتصورون الشرك في تلك الأصنام التي كانت حول الكعبة في مكة، ويتصورونه فيمن يسجد لتلك الأصنام أو يذبح لها، ويقتصر فهمهم على مناقضة التوحيد أو خالطه بغير ما هو منه.
ولذلك ينبغي أن ننتبه إلى أن القرآن في هذه الوصايا بدأ بأكبر المحرمات وأفضعها وأشدها إفساداً للعقل والفطرة، وهو الشرك بالله تعالى، سواء كان الشرك باتخاذ الأنداد له جل وعلا، أو باتخاذ شركاء يُرى أنهم يشاركونه في تصريفه للأمور وتدبيره لها، أو اتخاذ شفعاء يكونون عنده وسطاء، أو اتخاذ تشريع وحكم غير تشريعه وحكمه الذي أنزله في كتابه وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكل شيء وكل ضرب من ضروب الشرك ينبغي أن يكون في قائمة أعظم المحرمات المنهي عنها؛ إذ التوحيد قاعدة بناء الإسلام، كما قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}[الفرقان:٢٣]؛ لأنه عمل على غير إيمان، ولأنه عمل من غير توحيد، قال عز وجل:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:٦٥].
إن أمر توحيد الله عز وجل عظيم؛ ففيه الاعتراف بربوبية الله جل وعلا خلقاً وتدبيراً، والاعتراف بألوهيته سبحانه وتعالى خضوعاً وتعبداً، والاعتراف بأسمائه وصفاته تعظيماً وإجلالاً، إنه يشتمل على كل مشاعر القلب التي تخرج منه كل تعلق بغير الله، وكل رجاء في غير الله، وكل خوف من غير الله، وكل ذل لغير الله عز وجل؛ ليبقى موحداً قوياً في صلته بربه سبحانه وتعالى، وليبقى حينئذ مقراً بخلق الله وتدبيره ورزقه وإحيائه وإماتته وتصريفه لكل أمر، وليبقى عالماً بأن الذي أنعم ينبغي أن يعبد، وإذا عبد ينبغي ألا يشرك معه غيره، وإذا كانت له أسماء وصفات فليس له معها ولا بها ولا فيها أحد يشابهه، كما قال عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:١١].
إن امتلاء القلب بهذه الحقيقة هو أساس هذا الدين كله، وهو الذي طهر محمد صلى الله عليه وسلم منه قلوب وعقول الكافرين والجاهليين، فأصبحوا من خلص أصحابه رضوان الله عليهم، وأصبح عندهم صفاء في توحيدهم، وقوة في يقينهم، ورسوخ في إيمانهم، وتجرد في إخلاصهم، وعظمة في تقواهم، وصدق في توكلهم، وقوة في ثقتهم بالله عز وجل، وعظمة في حبهم له، وشدة في خوفهم منه سبحانه وتعالى، وذلك هو جوهر الإيمان والتوحيد، وليس مجرد كلمات تقال فحسب، وليس مجرد اتباع للأوامر فحسب، بل هو ذلك الشعور الذي يستقر في سويداء القلب، وفي أغوار النفس، فيملك على الإنسان كل مشاعره، وكل خواطره، وكل أقواله، وكل أفعاله، وكل أحواله، فيكون في كل حركة وسكنة وكلمة وسكتة يعبر عن صلته بالله عز وجل وتوحيده له سبحانه وتعالى.