[تخوف أعداء الله من قيام حكم الإسلام]
الجانب الأول: الجانب السياسي الذي جاء أصلاً في كتاب الله سبحانه وتعالى كقواعد عامة وكأحكام تشريعية تفصيلية في بعض الأحوال، وجاء أيضاً كأقوال وتطبيقات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بعد ذلك امتداداً تاريخياً طويلاً عبر قرون كثيرة، كل هذا يراد أن يلغى، ونجد التحريف والتحوير فيه.
لكن يهمنا أن نخوض أولاً مع هذا الخلل في التفكير، ومع هذا الانحراف في التصور؛ لنبين كيف يعرى الإسلام من هذه الجوانب على وجه الخصوص؛ لغرض إبقائه في دائرة الضعف التي تسهل السيطرة عليها، ويسهل تهميش دوره في واقع الحياة، وبعد ذلك ستكون وقفتنا مع الرد على مثل هذه القضايا أو الانحرافات.
فأحدهم يقول: الإسلام لم يفرض نظاماً إسلامياً مفصلاً، والخلافة ليست نظاماً محدد المعالم! ومن العجيب أن يستشهد هذا وأمثاله بقول أبي بكر رضي الله عنه: (إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على خير فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني)، وأيضاً بقول عمر رضي الله عنه المشابه لهذا القول.
قالوا: هذا إعلان من أبي بكر ومن عمر أنهم سيجتهدون، وأنه ليس عندهم إلا مراعاة المصلحة وتحقيق الأهداف القومية أو الوطنية -كما يدعون- وبالتالي فإنهم يعلنون للناس أن يشاركوا معهم مشاركة سياسية في النقد والتقويم، وليس هناك شيء من عند الله، وليس هناك منهج للحكم في هذا الدين، وليس هناك حدود لا يجوز تجاوزها، وليس هناك نظام يعتبر الالتزام به ديناً يدين المسلم به لله سبحانه وتعالى.
بل أغرب أحدهم إغراباً عجيباً وجاء بجهل فاضح حينما قال: إن أول العلمانيين -عياذاً بالله- هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه حوّر الحكم الإسلامي، وجاء بمستحدثات بناءً على المصلحة، وليست هي منصوصة في الدين، فهو أخذ الجانب المدني وأسس الحياة، ووضع لبنة الحياة المدنية من منطلق عصري يتابع المتغيرات ويرعى المصالح، وليس له بالدين صلة ولا نسب.
ويقول أيضاً: ورأي آخر نرفضه كذلك يرى أن للإسلام نظاماً في الحكم مفصل المعالم متميز القسمات أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه بالفعل أيام الخلافة الراشدة قبل أن تتحول إلى ملك عضوض، وأن على المسلمين أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة، وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة؛ ليضعوا النظام الإسلامي على رأس دولتهم الجديدة.
ثم يقول: هذا الكلام مرفوض وغير مقبول! ويقصد: أنه غير مقبول من الناحية العلمية، كما يدعي هو وغيره.
ومثل هذا الدكتور محمد خلف الله الذي كتب كتابات كثيرة في قضايا تمس أصل هذا الدين والاعتقاد بالله سبحانه وتعالى وبالقرآن وبالسنة، وكان قد أثار موجة كبيرة من سخط الغيورين على هذا الدين، فإنه يؤكد هذا الجانب أيضاً فيقول: نظام الحكم في الإسلام نظام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل باجتهاد آخر! ولاحظ أن القضية يراد أن تقرر؛ حتى يكون هناك مجال للمدخل على هذا الحكم أو النظام الإسلامي.
فإذا قلنا: إنه حكم ونظام من عند الله فإن القضية تبقى أنه ليس لأحد من البشر أن يغير، ولكن إذا قلنا: إنه اجتهاد فهنا يفتح الباب على مصراعيه للتغيير والتحوير، بل للمخالفة الصريحة لهذا الدين! فلذلك يقول: إن النظام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل باجتهاد آخر؛ حتى يأتي الاجتهاد الجديد بما يحقق المصلحة، والجماعات الدينية يجب أن تترك هذه القضية؛ لتكون محل اجتهاد جديد! ويقول: إن الفكر السياسي في نظام الحكم هو فكر بشري خالص، وتستطيع المؤسسات العلمية مثل كليات العلوم السياسية أن تجتهد فيه؛ إذاً: فليس للدين شأن أو حكم أو قول فصل في هذا الميدان وهذا المجال.
أيضاً: يكرس أحدهم نفس الفكرة بقوله: نحن مطالبون بأن نكون متبعين للرسول صلى الله عليه وسلم بالتزام سنته التشريعية -أي: تفسير القرآن- لأنها دين، أما سنته غير التشريعية -ومنها تصرفاته في السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء ومثلها وما شابهها من أمور الدنيا- فإن اقتداءنا به يتحقق بالتزام المعيار الذي حكم تصرفه، وهو بقاء الدولة، فقد كان يحكم فيها على النحو الذي يحقق المصلحة للأمة، فإذا حكمنا بما يحقق المصلحة للأمة كنا مقتدين بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى -وانظر هذا الكلام العجيب الغريب التناقض- ولو خالفت نظمنا وقوانيننا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في السياسة من أحاديث؛ لأن المصلحة بطبيعتها متغيرة ومتطورة! إذاً: المسألة عنده تقتضي أننا لا نلتزم، وأن التزام السنة واتباع الرسول وتعظيمه إنما هو التزام بالسنة التشريعية التي هي -كما يدعي- تفسير القرآن، وإن كان تفسير القرآن في ذاته يرد على مثل هذه الفرية.
وليته عدد بعض الشئون البسيطة وإنما عدد كل الأمور: السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء وما شابهها وما يماثلها.
إذاً: كل شيء -ما عدا ركعات الصلاة وفرضية الزكاة والحج- يجوز تبديله، وانتهى الأمر إلى هذه الغاية الضيقة المحدودة التي تعارض أصل هذا الدين! وهناك تشويهات سنعرض لها بعد ذلك.
والكتابات في هذا الجانب كبيرة وكثيرة جداً، بل نجد أن التركيز في كتابات من يطلق عليهم المفكرون أو المنظرون أو المستنيرون كلها بلا استثناء صبت في هذا الجانب، وتخصصت فيه، مما يدل على حرب هؤلاء لهذا الدين، وعلى عمالتهم لأعدائه.
في الفترات الماضية كانوا هم المفكرين، وكانوا هم المنظرين، وكانوا هم المستنيرين، ولكن ما كانوا يتعرضون لهذه القضايا بهذا التركيز، لكن لما تقدمهم في ذلك أئمتهم وأسيادهم وأوعزوا إليهم ساروا على نفس الخطى، ومضوا في ذاك الركاب، ينعقون بما لا يعرفون، ويهرفون ويخرفون كما سيظهر لنا من بعض أقوالهم.
ونستطيع أن نقول: إنه تولى كبر هذه القضايا بعض الكتب التي ركزت هجومها على هذه الأمور الثلاثة؛ وهي أمور مهمة من صميم هذا الدين، فهناك كتاب: (قبل السقوط) لـ فرج فودة، وهناك كتاب: (الحركة الإسلامية بين الوهم والحقيقة)، وهناك كتاب: (بين الفقه والشريعة والقانون)، هذه الكتب كلها صبت في هذا الجانب في حرب الإسلام.