للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الوسطية]

السمة الأولى: الوسطية، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣]، إنه الوصف الرباني الإلهي لأمة الإسلام، والوصف إذا ذكر فله سمات مهمة: أولها: أنه ظاهر بين، إذا أردت أن تصف إنساناً فلا يمكن أن تصفه بصفة خفية لا يعرفها إلا المقربون منه، ربما نصفه بعرج في رجله أو شيء في عينه يراه الناس، لكني إن وصفته بشامة في داخل جسمه من عسى أن يدركها؟ فإن قلنا: أمة الإسلام أمة الوسط فمعناه أن هذه الصفة ظاهرة بينة.

وأمر ثان في الصفة وهو أنها ملازمة دائمة، لا نقول عن إنسان: إنه كريم؛ لأنه أنفق مرة واحدة، بل لا نعطيه الصفة إلا إذا كانت ملازمة له ودائمة في سائر أحواله: لعمر أبيك ما عرف المعلا كريماً وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت وأصحر نبتها رؤي الهشيم فإذاً: الوسطية سمة في الإسلام في كل الأحوال، في السراء والضراء، في السلم والحرب، في معاملة الأحباء ومعاملة البغضاء لا يتغير ذلك.

كما هي الصفة اللازمة الدائمة، وكما كان سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه أن يرزقه الله سبحانه وتعالى العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، إنه الأمر الدائم، والسمة اللازمة.

ونحن نعرف أن هذه الوسطية تجمع بين أمرين اثنين لابد من وجودهما في كل معنى من هذه المعاني: أولاً: الخيرية.

ثانياً: البينية الوسطية معنوية وحسية، فلا يمكن أن يكون الشيء وسطاً إلا إذا كان هو الأفضل والأعدل والأحسن والأكمل.

ومن دلائل هذه الخيرية والعدالة والأفضلية أنه وسط بين المذموم من الطرفين، وهذه سمة الإسلام، وسمة أهله، وسمة تشريعاته، وسمة عقائده، سمة الوسطية أمرها يطول إذا أردنا أن نتحدث عنها أو أن نفيض القول في دلائلها، وحسبنا أن نبرز ذلك في الأمور الظاهرة البينة مما كتبه عمر بن عبد العزيز في بعض رسائله لبيان حقيقة الإسلام، وصفة مواقف السلف رضوان الله عليهم، قال رحمه الله في هذا المعنى: (لقد قصر قوم دونهم -أي: دون سلف الأمة- فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم)، الوسطية خير وفضل، ينأى ويبتعد عن تساهل وتفريط، وعدم تعظيم للدين وأخذ به، ويجتنب كذلك تشدداً ليس من دين الله وتجاوزاً للحد ليس في شرع الله، فتكون حينئذ خيرية ووسطية بينية.

ومما قاله ابن القيم في بيان هذا المعنى: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين الضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.

واستمع إلى نماذج يسيرة يضيق المقام عن استقصائها: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧] ليس ذماً للدنيا، وليس إغراقاً فيها وتعلقاً بها، وجعلها مقصد الإنسان الأول والأخير والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢].

وفي موطن آخر التحذير من التعلق بالدنيا وجعلها غاية الهم وأعظم الشغل، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:٢٠]، كما بين الله سبحانه وتعالى في هذا المثل، وجاء في آخر هذه الآية ما يبين لنا ذلك التوازن والتوسط الذي ينبغي أن نأخذ به في مثل هذا المثال.