نمر ونعرج من خلال نصوص السنة النبوية المشرفة على قضية أخرى وهي: أن كثرة الخير تغمر وتغطي قليل الخطأ والزلل، بل ربما كان للخير الأعظم والأكبر ما يغفر زللاً قد سبق، وزللاً قد مضى، ولذلك شواهد عظيمة في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الأول: ما جرى من أمر حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما أرسل إلى أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتحها، وأخبر الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فأرسل علياً ومعه نفر من الصحابة وقال لهم: اذهبوا إلى روضة خاخ فإنكم تجدون امرأة معها كتاب فخذوه، فذهبوا فلما وجدوا المرأة أخذوا الكتاب قبل أن تصل به، وعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاطب في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم بالظنة رغم وضوح الفعل، ورغم صراحة وثبوت القضية -كما يقولون- بالأدلة المادية المحسوسة، ولكنه قال له عليه الصلاة والسلام مبيناً منهجاً عظيماً:(ما حملك على ما فعلت؟) ليبدي عذره، وليبين تأوله أو اجتهاده، أو ليعترف ويقر بذنبه، فقال ما معناه: إنه مؤمن بالله ورسوله، وأنه ما غير ولا بدل، ولكن الأمر أن له مالاً وأسرة، وليس له عند قريش من يحميهم، فأراد أن يجعل له يداً عندهم ينتفع بها، فحينئذ قام عمر رضي الله عنه بغيرته المعروفة، وبشدته الظاهرة المعلومة فقال:(يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا عمر! ما أدراك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؟ وقد كثرت أقوال الشراح لهذه المقالة وكلها تجمع على أن فضيلة التقدم في الإسلام، وشهود بدر، والمنافحة عن دين الله؛ كان لها الأثر أن تكون معفية لذنوب سبقت أو لذنوب تلحق، أو أنها تكون سبباً لصاحبها فلا يقع في العظائم، وربما يقع له بعض الهنات التي يغفرها الله سبحانه وتعالى له، وهكذا من كان له قدم صدق، ومزيد فضل، وغزير علم، وسابقة خير في الناس؛ ربما يكون له من الخير ما يعفي عنه أو ما يغطي عنه أو ما يقلل أثر الذنب القليل أو الخطأ اليسير بعون الله تعالى.
ومن ذلك حديث عند الترمذي حينما جهز عثمان جيش العسرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) وهذا شاهد على ما قلنا من قوله صلى الله عليه وسلم.
ما جاء في صحيح البخاري ومسلم أن رجلاً كان اسمه عبد الله ولقبه الحمار، وفي بعض الروايات لم يسم، وفي بعض الروايات أنه نعيمان أو ابن نعيمان، كان يؤتى به وقد شرب الخمر، ثم يجلد، ثم يؤتى به مرة أخرى، وتكرر منه ذلك كثيراً، حتى قال بعض الصحابة:(لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) وهذه قاعدة عظيمة أنه قد يجتمع حب الله ورسوله وثبوت الإيمان مع حصول الخطأ والمخالفة، وهذه من المزالق العظيمة التي وقع فيها الخوارج وغيرهم حينما كفروا مرتكب الكبيرة، ونفوا عنه اسم الإيمان، فهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عن رجل تكرر منه شرب الخمر، وحد فيه، أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينهى عن لعنه، قال العلماء: إن كان مراد لاعنه اللعن المعروف -وهو الطرد من رحمة الله- فلا شك أنه منهي عنه بالجملة؛ لأنه يكفره به، وقد يقصد بلعنه توبيخه أو التشنيع عليه كما يكون بين الناس عندما يلعن إنسان إنساناً ولا يقصد الحكم عليه بالطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي بعض الروايات لهذا الحديث: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) فإن مثل هذا الجرح أو مثل هذا السب أو مثل هذا التشنيع ربما يسبب أن الإنسان تأخذه العزة بالإثم فينجرف وراء الإصرار على المعصية، وقد كان يوشك أن يكون قريباً من حبل التوبة فيعتصم وينجو به بإذن الله سبحانه وتعالى.
وهذه مقالة نفيسة لـ أبي الدرداء رضي الله عنه، فإنه كان يقول:(لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ولكن كونوا عوناً لأخيكم على الشيطان)، وهذه مسألة من المسائل التي نستشفها من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه.
الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) والمقصود بذوي الهيئات الذين اشتهر فضلهم في الناس، والذين بزغ نجمهم في المجتمع، والذين كثر خيرهم، فإذا وقعت لهم عثرة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أن تقال عثرتهم، وألا تكشف سوأتهم؛ لئلا يذهب كثير خيرهم في الناس، ولئلا تنعدم قدوتهم في كثير من الخير الذي هم عليه عند الناس، ونص الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) إلا ما كان موجباً للحد، فإذا بلغ الحد الحاكم فلا تقال مثل هذه العثرة، إلا ما كان في باب التعزيرات، أي: ما يكون موجباً للعقوبة دون الحد، فللحاكم -عندما يكون الواقع في هذا الأمر من ذوي الهيئات- أن يسقط عنه التعزير الذي هو مقدر من عند الحاكم أو القاضي، ولذلك قال الشافعي في ذلك: ذوو الهيئة من لم يظهر منه ريبة.
وقال العلماء في الاستنباط من الحديث: وفيه دليل على جواز ترك التعزير، وأنه غير واجب، يعني: لمن كان عليه هذا الأمر.
وقد روى الترمذي وضعفه بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم) وهي قاعدة مقررة عند الفقهاء، وهي درء الحد ولو بشبهة، وهذا حديث من الأحاديث التي نستشهد ونستأنس بها في هذا الباب، وقد ذكر الماوردي في الحاوي الكبير في فقه الشافعية هذه القضية، وضرب لها أمثلة كثيرة.