[ضوابط الإصلاح في المجال الاقتصادي]
إننا في كل حديث، وفي كل رأي، وفي كل خطة، وفي كل نظرة، ينبغي أن نكون منطلقين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وراجعين إليهما، ومسترشدين بهما، ومعتمدين عليهما.
ومن هنا نتحدث قليلاً عن بعض هذه المجالات.
وقبل كل شيء فإن كل هذه المجالات ينبغي أن نرى فيها ثلاثة أمور: أولها: المنطلق الإيماني.
ثانيها: الانضباط الشرعي.
ثالثها: الاعتبار المصلحي.
فلا خير في إصلاح ينطلق من غير منطلق الإيمان، ويسير بعيداً عن رحابه وظلاله.
ولا يمكن بحال أن يتحقق للإصلاح أثر بعيد عن الانضباط الشرعي، والرجوع إلى الأحكام الكلية والتفصيلية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أنه يضيع الإصلاح وتضيع آثاره عندما لا يكون مرتبطاً بالمصلحة العامة، ومراعياً للآداب الاجتماعية المؤسسة على قاعدة الإيمان والإسلام، فإن الذي ينطلق من الرؤى الشخصية والمصالح الذاتية تختلط به كثيراً من الأهواء والآراء الزائغة.
مجال الاقتصاد منطلقه الإيمان كما هو منطلق كل مجال إصلاحي، فالرسل والأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل إلى الأمم والبشر والخلائق، بعثهم أول شيء بالإيمان والتوحيد، وكلهم كان يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] هذا المنطلق الإيماني استخدمه موسى عليه السلام ليكون هو أساس الإصلاح السياسي الذي يعالج به طغيان فرعون واستبداده، وهو كذلك المنطلق الإيماني الذي استخدمه شعيب عليه السلام ليقوم الانحراف الاقتصادي من غش وتطفيف للمكيال والميزان، وأخذه كذلك لوط عليه السلام ليقوم به الانحلال والانحراف الخلقي الذي تمثل في الرذيلة التي شاعت في قومه؛ ولذلك فمنطلق الإيمان هو الأساس الذي ينبغي استحضاره، كما قال الله جل وعلا لنا في شأن المجال الاقتصادي في قصة شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه ويقول: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] وبعد تأسيس هذه القاعدة يواصل فيقول: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:٨٥] إنه الإيمان ابتداءً، والإيمان انتهاءً، لماذا؟ لأنه ينشئ مملكة الضمير، وينشئ القلب الحي، وينشئ النفس المراقبة لله، وينشئ الأمل الذي يتعلق بثواب الله، ويخشى من عذاب الله عز وجل، إنه الميزان الحق والمنطلق السديد الذي به تعصم البشرية من نزغات الشياطين، ومن ضلالات الأهواء، ومن انحرافات الآراء.
والله سبحانه وتعالى يبين لنا هذا المنطلق الإيماني في مثل هذه القصة النبوية لشعيب عليه السلام، ثم ننظر إلى الانضباط الشرعي، فنرى الآيات القرآنية ومعها الأحاديث النبوية تعطينا أحكاماً كلية وتفصيلية في شئون المال.
ليس المال اجتهاداً للبشر لكي ينظروا إلى مصالحهم ويأخذوا السبيل الذي يرونه محققاً لها، بل هو في أوجه اكتسابه وفي طريقة إنفاقه وفي كل ما يترتب عليه من الحقوق وما ينبني عليه في التعاملات من العقود؛ مبني على ما جاء في الكتاب والسنة من الأحكام {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٥] وكم جاءت الآيات مفصلة في الرهن والبيع والشراء؟! وكم جاءت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تبين هذه المعالم في نصوص كثيرة معلومة ليس هذا مقام ذكرها أو حصرها؟! ثم ننطلق لنرى عموم تلك الكليات في خطاب القرآن: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:١٨٨]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرن ذلك ويبينه في الحساب الأخروي، أربع يسأل عنها الإنسان يوم القيامة، وفيها للمال سؤالان وليس واحداً: (من أين أكتسبه؟ وفيم أنفقه؟) هل كان طريق الكسب حلالاً، وطريق الإنفاق مباحاً أم غير ذلك؟ ولذلك تأتي هذه المسئولية مرتبطة بالأحكام الشرعية، كما كان صحب النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة يرجعون إليه ليسألوه عن هذه المعاملة وحلها وجوازها، وهذا المال الذي اكتسبوه من هذه الطريقة هل هو سائغ؟ وهل هو مباح أم لا؟ وذلك ما كان يربطه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور أخرى كثيرة متعلقة بالإيمان، ومرتبطة بالأحكام.
خاطب النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وقال: (يا سعد! أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة) فجعل إجابة الدعوة والدعاء من أعظم أسبابه: طيب الكسب، وعدم أخذه من الحرام، وفي المقابل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! وملبسه حرام، ومطعمه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟!) إنها تلك التوجيهات الإيمانية والأحكام الشرعية.
ثم ننظر إلى الأمر الثالث: وهو الاعتبار المصلحي.
إن الإسلام ينظر إلى مصلحة الأمة في مجموعها، حتى المال الذي يخصك قد وُضعت له الضوابط والأحكام، فإن تجاوزتها فليس ذلك اختياراً شخصياً، بل هناك أحكام ومعها آداب تحقق الحفاظ على المصلحة العامة، كما يبين الحق جلا وعلا (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:٣١] الإسراف وإن كان من حر مالك مذموم محرم في الشرع.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:٥] ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيل الحكم بالحجر على السفيه؛ لأنه يبدد ماله، لكنه مع ذلك يبدد ثروة الأمة، ويبدد المصالح العامة، وينتهك الآداب التي تجعل لكل شيء مقامه وقدره وقيمته.