وانظر أيضاً إلى موقف آخر يوضح فيه عمر هذا الأمر توضيحاً عجيباً فريداً: اجتمع بعض الصحابة ورأوا من عمر في شدته ما يدعوهم إلى أن يكلموه في ذلك، فانتدبوا عبد الرحمن بن عوف، وكان أجرأهم على عمر، فجاء إلى عمر وقال:(يا أمير المؤمنين! لن للناس، فإنه يقدم القادم -أي: من بلاد المسلمين- فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك، قد خاف الناس أن يكلموك بحوائجهم)، فماذا قال عمر رضي الله عنه؟ قال:(أنشدك الله، أقال لك هذا فلان وفلان؟) أي: هذا ليس قولك وحدك، بل هو قول جمع من الصحابة، فقد كان عمر يعرف ذلك منهم، ويعرف هيبتهم له، وجرأة عبد الرحمن عليه، فقال:(نعم، فقال عمر: يا عبد الرحمن! لقد لنت للناس حتى خشيت الله في ديني، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في شدتي، وايم الله! لأنا أشد منهم فرقاً -أي: خوفاً من الله- منهم مني)، أي: أنا أشد خوفاً من الله من خوفهم مني، فأين المخرج؟ فماذا يقصد عمر؟ قال:(إني ألين ولا أترك اللين إلا عندما أرى أنه ضعف في الدين، وأشتد ولا أطلق الشدة إلا أن أرى أنها غلظة ليست في موضعها، وأجتهد في ذلك رعاية المسلمين ومراقبة لله، فوالله! إني لأشد منهم فرقاً منهم مني)، ثم جر رداءه وخرج يبكي رضي الله عنه وأرضاه، فالتفت عبد الرحمن بن عوف وهو يقول:(أف لهم من بعدك يا عمر! أف لهم من بعدك يا عمر!).
وهكذا نجد هذه الفلسفة وهذا الشرح والبيان في موقف عمر في قوته رضي الله عنه، فقد كان كما قال الشاعر: في الجاهلية والإسلام هيبته تثني الخطوب فلا تعدو عواديها في طي شدته أسرار مرحمة للعالمين ولكن ليس يحكيها وبين جنبيه في أوفى صرامته فؤاد والدة ترعى جراريها أغنت عن الصارم المسلول درته فكم أخافت غوي النفس عاديها قد كانت شدة عمر نصرة للحق، وكان لينه تقريباً لأهل الحق، وهكذا كان عمر رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وهكذا كان يجسد ما أنبأنا الله عز وجل به في شأن وصف أهل الإيمان الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه، فقد جاء في وصفهم قوله تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة:٥٤]، وقد كان عمر كذلك، فقد كان يعس ويرعى شأن العجائز والأطفال والصغار، بل كان يبكي ويرق لهم، بل كان يخدمهم بنفسه رضي الله عنه، وهكذا جسد المعنى الذي ذكره النبي الكريم في قوله صلى الله عليه وسلم:(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وكان عمر رضي الله عنه يريد بقوته أن يعز الإسلام، وأن يظهر قوته، ويريد بلينه أن يدعو إلى الإسلام وأن يظهر سماحته، فكان في كل موقف داعياً لله عز وجل، وكان في كل موقف ملتزماً أمر الله سبحانه وتعالى، وكان مجسداً لصورة الإسلام الحق في أبهى وأجلى وأنصع صوره، وما أحرانا أن نتلمس مثل هذه القوة بمثل هذا المنهج في سيرة عمر رضي الله عنه.
فالله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والله أسأل أن يجعلنا آخذين بالقوة في الدين، والشدة على أعداء الدين، واللين للمسلمين.