الثالث: إظهار الحرص والتجرد عند النصح: أما الحرص فنقصد به إظهار الحرص على ذلك المنصوح، وأن تبدي له غاية الشفقة به، وعظيم الرحمة له، وأن تجسد له أنك تريد له الخير، وتضمر له الحب، فإن ذلك من أعظم الأسباب التي تغزو بها النصيحة القلوب والعقول.
ولعلنا نستحضر هنا الوصف العظيم الذي وصف به نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:١٢٨]، فهو الذي فاض قلبه بالرحمة فكان يشفق على كل عاصٍ، ويحزن لكفر الكافر، ويريد أن يكون الناس كلهم في سياق رحمة الله عز وجل ورضوانه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السياق مبيناً صفته مع الناس:(إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تتقحمون فيها)، كما ورد في بعض الروايات.
فكأن الناس قد انساقوا وتسارعوا إلى النار غفلة عن الله عز وجل أو كفراً به أو ولوجاً في المعاصي، وتأتي هداية النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ورحمته لترد الناس عن هذا المصير السيئ والخاتمة الشقية إلى حياض دين الله عز وجل.
ومن هنا رأينا مواقف رحمته كيف أثرت في نفوس العتاة الصادين عن دين الله! فتتت قسوة قلوبهم وألانتها بما كان من هذا الحرص والإظهار للمحبة والشفقة.
وكيف نريد أن يقبل منا النصح والمنصوح قد يرى أننا لا نضمر له إلا شدة، ولا نريه إلا غلظة، ولا يسمع منا إلا فظاظة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩]، والله جل وعلا صدر الآية بالرحمة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩]، فالله الله عندما ننصح أن يكون إظهار هذا المعنى مهماً.
والمعنى الآخر هو التجرد: أي التجرد عن المصلحة والمنفعة، إنما أنصحك لوجه الله لا أريد منك جزاءً ولا أنتظر منك شكوراً، ولا أرقب منك أن ترد لي المعروف مادة أو شيئاً من ذلك، وذلك لسان حال الرسل والأنبياء كلهم فيما قص القرآن من خبرهم: (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس:٧٢].
ويوم يتنزه الناصح والداعي عن المطامع وحطام الدنيا تعلو مكانته عند الناس، ويعظم قدره في عيونهم، ويرون صدق إخلاصه، فيكون لذلك أثره في القبول: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:٨٨]، ما لي عندكم من غرض، ولا فيكم من أرب، إلا أن يجري الله الخير على يدي بما أقول، إبراء لذمتي، وبما أرقب من النفع استجابة لدعوتي.
فالله الله في مثل هذا السلوك؛ لأنه هو الذي يقود بإذن الله إلى حصول الأثر.