[الاختيار المناسب للأسلوب]
الخامس: الاختيار المناسب للأسلوب بحسب الظروف المتغيرة: ومن ذلك اختيار الأوقات المناسبة، وهذا أمر عزيز في النصيحة، فكم من نصيحة نقذفها في وجه صاحبها وهو في أوج غضبه، أو وهو في شدة أزمته أو كربه فلا يكاد يسمع شيئاً.
خذوا هذا الموقف: اختصم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اثنان، فعلت أصواتهما، حتى احمر وجه أحدهما وظهرت أوداجه في رقبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من بعد: (إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فسعى بها رجل)، يعني: سمعها رجل من النبي صلى الله عليه وسلم فذهب بها إلى الرجل وقال له: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا (فمن شدة غضب الرجل وفورته قال: اذهب عني فإني لست بمجنون)، أي: تقول لي: استعذ من الشيطان وكأن الشيطان قد ركبني! لو كان هذا في وقت بعده بقليل لربما كان أنسب.
وخذوا فقه العظيم النبي صلى الله عليه وسلم عندما: (جاءه حكيم بن حزام فسأله مالاً فأعطاه، ثم جاء في وقت آخر فسأله فأعطاه، ثم جاء ثالثة فسأله فأعطاه، ثم قال له: يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه).
سأله في أول مرة وهو محتاج فأعطاه، لو قال له في ذلك الوقت: السؤال ليس مناسباً والتسول ليس مطلوباً لقال: إنما يريد أن يصرفني، ولا يريد أن يعطيني، لكنه أعطاه، والمرة الثانية أعطاه، والمرة الثالثة أعطاه، فلما أشار له إشارة أن التطلب لهذا المال قد لا يكون مناسباً وقعت النصيحة والموعظة في موقعها، وعلم أنه ما قال له ذلك لأنه بخيل -فحاشاه عليه الصلاة والسلام- أو لأنه لا يريد أن يعطيه، وإنما قاله له لمصلحته، فعرف ذلك بعد أن اختار الوقت المناسب وبعد أن سد له حاجته في مرة واثنتين حتى لا تذهب به الظنون بعيداً، فأي شيء أثر ذلك في حكيم؟ قال: (فما سألت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مت)، وفي عهد أبي بكر أرسل له عطاءه المستحق له من بيت المال فرده قال: (والله لا أرزأ أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي عهد عمر رد عطاءه.
انظروا كيف تغلغل أثر هذا في نفسه حتى إنه لم يعد يأخذ شيئاً ولو كان له فيه حق؛ لأن نفسه سمت وارتفعت عن أن يأخذ بعد أن فقه هذه النصيحة فقهاً له أثره العظيم في حياته.
والتخول بالموعظة كان من هديه عليه الصلاة والسلام، فهذا أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود كان يعظ الناس ويذكرهم كل خميس قالوا: وددنا يا أبا عبد الرحمن! لو أنك ذكرتنا كل يوم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا، إذاً: كلهم لهم به عليه الصلاة والسلام اقتداء وهم لأثره في اقتفاء، ولذلك كانت أفعالهم على هذا النحو العظيم المؤثر النافع.
وكذلك من ضمن ما يدخل في الوقت المناسب المراوحة والمزاوجة بين الإسرار والإعلان: فنصيحة الفرد غالباً ما يكون الأفضل فيها والأتم أن تكون في السر بينك وبينه، وأما نصيحة العموم إذا فشا أمر، فالخطيب يريد أن يذكر، والعالم يريد أن ينبه، والناصح يريد أن يحذر، ولا بأس بذلك، ولكنه وإن كان معلناً فينبغي أن يكون للعموم، ليس فيه تحديد، فكم من حادثة كان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر فيها وينصح على الملأ ولكن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ثم ينبه.
لست في حاجة أن أقول: فعل فلان أو أن أصف وصفاً يعلم الناس كلهم أن المقصود به فلان وفلان، فذلك لم يعد نصيحة بل فضيحة، ولذلك فإن مراعاة مثل هذه الصفات لها أثرها في أن تقع النصيحة على الوجه المطلوب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأرشد الآراء وأصوب الأفعال، وأن يجعل ذلك العمل كله خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.