ولننتقل إلى صور أكثر وضوحاً وجلاء لهذا الحق العظيم من حقوق المرأة والحرية المهمة من حرياتها، وهو أمر في أعظم بيت من بيوت الدنيا كلها، إنه بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما توفي أبو سلمة وانقضت عدة أم سلمة رضي الله عنها تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطبة أم سلمة المهاجرة للهجرتين والمتقدمة في نصرة الإسلام، قالت:(أرسل إلي صلى الله عليه وسلم حاطباً يخطبني إليه فقلت: إن لي بنتاً وأنا غيور -كأنها تذكر بعض الأمور التي ينبغي أن يراعيها أو أن يعرفها الزوج حتى يأخذ بالاعتبار مثل هذه الأمور فيقدم أو يحجم- فلما رجع الرسول إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أرسله وقال: أما ابنتها فأدعو الله أن يغنيها عنها، وأما غيرتها فأدعو الله أن يذهب عنها الغيرة).
ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم قصة أخرى أعظم من هذه وأبلغ في زواج النبي صلى الله عليه وسلم الزواج القرآني الذي خلده الله عز وجل في آيات تتلى، وذلك زواجه من زينب بنت جحش لما طلقها زيد رضي الله عنه، يقول زيد كما في صحيح مسلم: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فانطلقت حتى إذا جئت وهي تعجن عجيناً لها، فوقفت فهبتها لما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوليتها ظهري وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي -أي: حتى أستخير وأصلي وأتخذ القرار بناء على استخارة ربانية- ثم ذهبت ونزلت إلى مسجدها في بيتها ونزل القرآن:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْه}[الأحزاب:٣٧] إلى آخر الآيات القرآنية التي زوج الله عز وجل بها النبي صلى الله عليه وسلم من زينب.
وهذه صورة عملية لاستقلالية المرأة المسلمة وحريتها في الاختيار، حتى في هذا الموقف العظيم الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.