الله سبحانه وتعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات:٦] فهذه الآية نأخذ منها أن كل أمر من قدح أو تزكية ينبغي فيه التبين والتثبت، لا التعجل والتسرع الذي قد يفقد الدقة في تصويب الأمر أو تخطئته.
ونجد أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبصرنا في إطار عام إلى بعض الأمور والقواعد التي توضح مسار هذا الأمر، يقول صلى الله عليه وسلم:(من ستر على مسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة) وهو جزء من حديث طويل في الصحيح، فليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه، وليس كل زلة ينبغي نشرها وإذاعتها، وإلا لم يكن لهذا الحديث معنى عملياً ولا تطبيقياً، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر المدح، وعقب عليه بثبوت الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، ولذلك شواهد يأتي ذكرها.
ثم إن قصد التنبيه والتبيين لا يقتضي بالضرورة التشهير والتوبيخ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه كان إذا رأى أو سمع ما لا ينبغي أو ما ليس بصواب يقول:(ما بال أقوام يفعلون كذا كذا؟ ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟) فيحصل المقصود الأعظم -وهو بيان الخطأ والتنبيه من الوقوع فيه- مع تجنب التجريح، ومع تجنب ما قد يكون فيه نوع جرأة على حرمة المسلم، ونوع توغير للصدور، ونوع منافرة بين القلوب، ونوع تفرق في الصفوف، مما قد تكون آثاره أعظم وأخطر من هذه الزلة التي تم التنبيه عليها أو التشهير بصاحبها إذا صح التعبير.
ونجد في هذا أحاديث وتطبيقات كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: الحديث المعلوم في الصحيحين في قصة ماعز الأسلمي الذي زنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلوم أنه جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام معترفاً بزناه يقول: يا رسول الله! زنيت فطهرني، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثاً، وفي الرابعة رأى إصراره على الاعتراف فلم يبادره رغم تكرره منه، وإنما قال له ملقناً له للحجة التي قد يدرأ بها الحد عن نفسه، ويبصره بأنه ربما لم يفهم ما يوجب عليه الحد، فقال له:(لعلك قبلت أو لعلك فاخذت، فقال له: لا يا رسول الله!) حتى في الرواية التي في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح باللفظ الصريح في معنى الجماع! فلما حصل كل هذا من الاعتراف أربع مرات ثم تعيين الفعل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أبك جنون؟) لأنه يكون مسقطاً للحد عنه، ثم بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(استنكهوه)، يعني: شموا رائحته لعله يكون قد شرب خمراً خالط عقله فلم يدر ما يقول، (فاستنكهوه، فقالوا: ليس به شيء يا رسول الله، فحينئذ أمر به فرجم)، وفي بعض روايات مسلم أنه لما رجم هرب من شدة الرجم لكنهم لحقوه ورجموه حتى مات، فورد في بعض الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(هلا تركتموه؟) قال بعض الشراح: أي: لعله يتوب ويرجع، فهذا يبين لنا عظيم ما ينبغي من الستر على المسلم.
وفي رواية أنه جاء رجل إلى أبي بكر رضي الله عنه فاعترف بالزنا فقال له:(استر على نفسك وقد ستر الله عليك)، فلم يكن منه تشهير، بل حتى لم يكن منه إبلاغ للحاكم أو الإمام، لأنه داخل في مفهوم الستر متى ما تحصل المقصود، وهو وقوع الندم، وصدق التذلل لله سبحانه وتعالى، وعظيم الإخلاص في قصد التخلص من آثار هذا الذنب ولو بإقامة الحد الذي فيه إزهاق النفس، ثم إنه ذهب إلى عمر فقال له مثل ما قال له أبو بكر إنه ذهب إلى هزال فأخبره؛ فقال له: اذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يقيم عليك الحد، فجاء في الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ هزال:(هلا سترته بردائك؟) وهذا يبين لنا أن الستر مطلوب، ما دام أنه لا يكون فيه الضرر العام الذي تحصل به الفتنة، والذي يستلزم الوضوح وتبيين الأمر، فلما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معترفاً على النحو الذي أشرنا إليه أقام الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الحد تنفيذاً لحكم الله سبحانه وتعالى، وبياناً لقضية أن الحد إذا بلغ الإمام فلا بد أن يقام.
وكذلك قصة الغامدية نحوها، مما يبين لنا أن الأمر إذا كان يحتمل الستر، ومما لا يشيع أثره، ولا يعم ضرره؛ فإنه يكون الستر أولى، مع تقديم النصح والتذكير بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أنه لا يقر بالذنب، ولا يفضح أحد نفسه عند غيره إلا وقد حصل له من حرارة لسع أثر الذنب ومن حرارة قصد إرادة التوبة ما يحصل به المراد من إقامة الحد، وهو الرجوع إلى الصواب، والتطهير من الذنب.