[بعض القصص التي تبين حب النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه]
ومن وجوه الحب قصص كثيرة مع هذا القرب الذي كان للنسب، والذي كان تبعاً لذلك بالمعاشرة والمعايشة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في فترة من الزمان في ظل رعاية وكنف أبي طالب والد جعفر رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب تربى ونشأ في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعفر شقيقه، وهو أسن من علي بعشر سنين، فكان قريباً ومخالطاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وروى البخاري من حديث البراء بن عازب قصةً تنبئنا عن هذا القرب والحب، قال رضي الله عنه: (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد صلى الله عليه وسلم) إلى آخر ما هو مذكور في قصة الحديبية، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بما أخذ به من شأن الصلح، ثم مضى الأجل، فلما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم –أي: مكة- في عام القضاء ومضى الأجل.
أتوا علياً –أي: كفار مكة- فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا عم، يا عم.
فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها، وقال لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: دونكِ ابنة عمكِ.
فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي -أي: ليرعاها ويربيها؛ لأنها ابنة حمزة رضي الله عنه-.
وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي –أي: خالتها زوجتي- وقال زيد: ابنة أخي.
فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى هذا القضاء العظيم وإلى هذا العقل الراجح، وإلى التربية النفسية الفريدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلٌ يفضي إلى ابنة حمزة بنسب أو سبب، فكيف يكون القضاء؟ ولابد من أن يقضي لواحدٍ، فكيف يكون لغيره الرضا؟ فقضى بها النبي عليه الصلاة والسلام لخالتها، وهي زوجة جعفر رضي الله عنه، وقال: (الخالة بمنزلة الأم) ثم قال لـ علي: (أنت مني وأنا منك) وقال لـ جعفر: (أشبهت خلقي وخُلقي) وقال لـ زيد: (أنت أخونا ومولانا) فأثنى على كل واحد منهم بما طيَّب نفسه وخاطره، وقضى عليه الصلاة والسلام بما هو الأصلح والأكمل.
وشاهدنا هنا قوله لـ جعفر: (أشبهت خلقي وخُلقي) وقد كان أشبه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم برسول الله من حيث الخلقة، وأضاف النبي بنص حديثه الخُلقُ، وذلك دليل موافقةٍ وحبٍ.
وذكر الذهبي في السير رواية هذا الحديث من طريق ابن إسحاق عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ جعفر: (أشبه خَلْقك خَلْقي، وأشبه خُلقك خُلقي، فأنت مني ومن شجرتي) رجاله ثقات، وأخرجه أحمد في المسند.
ومثل ذلك رواه ابن سعد في الطبقات، وهذا دليل قربٍ وحبٍ واضح فيما كان لـ جعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواية أخرى لهذا الحديث عن هانئ بن هانئ عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشبهت خَلقي وخُلقي).
ومن صور المحبة الفياضة لـ جعفر في قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما عُلم بعد ذلك مما سيأتي في سيرة جعفر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من الحبشة إلى المدينة المنورة، فوافى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد غزوة خيبر، وفتح الله عز وجل لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أدري لأيهما أُسر: بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟)، فجعل ذلك الفتح العظيم الذي كان من أعظم الفتوح من حيث الغنائم، ومن أعظمها وأجلها من حيث تطهير الجزيرة من اليهود -عليهم لعائن الله- جعله في قمة السرور، لكنه قارن ذلك ووزاه وسواه وقارنه بحبِّه صلى الله عليه وسلم لـ جعفر وسروره بقدومه.
قال الذهبي رحمه الله في السير: وقد سُر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقدوم جعفر، وحزن والله لوفاته.
ذكر ذلك في مقدمة ترجمته في السير.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب بعد جعفر أبناء جعفر، ويضمهم إليه، ويشمهم ويردفهم ويقربهم؛ لما كان لـ جعفر رضي الله عنه وأرضاه من الحب والمنزلة الأثيرة.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفرٍ تُلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفرٍ فسبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة رضي الله عنها فاردفه خلفه، فدخلنا المدينة ثلاثةً على دابةٍ) أي: كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد كذلك في شأن قدوم جعفر ما يكشف عن مزج تلك المحبة بالإجلال والتقدير لـ جعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن عبد البر في سياق هذه الرواية: أنه لما قدم جعفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه المصطفى عليه الصلاة والسلام واعتنقه، وقبَّل بين عينيه، وقال: (ما أدري لأيهما أنا أشد فرحاً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟) وأنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار المسجد.
وهذا التقبيل بين عينيه إجلالٌ وحبٌ، والاعتناق دليل شوقٍ من الرسول صلى الله عليه وسلم لـ جعفر، وقد نأت به هجرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ما قبل هجرته عليه الصلاة والسلام، مدة سبع سنين إلى يوم فتح خيبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة -أيضاً- أن في المسند عند الإمام أحمد من حديث علي رفعه قال: (أعطيت رفقاء نجباء) وعد منهم سبعةً.
منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وسياق الحديث على أن هذه الكوكبة من أقرب وأحب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم إليه، ولذلك بلغ الحزن برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً يوم استشهد جعفر بن أبي طالب.
روت عائشة رضي الله عنها قالت: (لما جاءت وفاة جعفر عرفنا في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الحزن) وعن أسماء بنت عميس زوج جعفر رضي الله عنه قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بني جعفر،، فرأيته شمهم –أي: قبَّلهم واعتنقهم- وذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! أبلغك عن جعفر شيءٌ؟ قال: نعم.
قتل اليوم، قالت: فقمنا نبكي، فرجع وقال: اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد شغلوا عن أنفسهم).
ووردت روايات أخرى تحكي لنا حزن النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر، كقوله عليه الصلاة والسلام فيما وردت به بعض الروايات: (على مثل جعفر فلتبك البواكي).
وكان عليه الصلاة والسلام يحب جعفر ويقربه، وتلك بعض مواقف الحب والقرب في محطتنا الأولى.