[أعراض المسلمين حفرة من حفر النار]
يقول القاسمي: المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى، وأعظم استجابة، لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل من كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب الأكثر، ورغيبة السواد، ولذلك كثر ما قد يكون بين المتباينين في الفرق حول هذا الأمر.
ولا شك أن هذه القضية -قضية التقويم- مسألة فيها خطورة عظمى، نبه عليها الإمام ابن دقيق العيد في عبارة مهمة وقوية فقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام.
ولماذا وقفت عليها هاتان الطائفتان؟ وقفت مضطرة لأن طبيعة عملها واللازم منها أن تكون فيها، لكنها وقفت على الشفير، فهي على خطر، فلذلك انتبهت لنفسها، واستعصمت بالحق حتى لا تزل قدم فتقع في هذه الحفرة الخطيرة، ولذلك يذكر ابن دقيق العيد وجوهاً من الآفات التي قد تعتري قضية الجرح والتعديل، أو التقويم والتصويب، فقال: هذه لها وجوه خمسة من الآفات: أحدها: الهوى والغرض وهو شرها، وكم من جرح نعلم أن مبعثه هو الهوى! قال: وهو في تاريخ المتأخرين كثير.
يقول ذلك وهو من المتأخرين، فكيف بالمتأخرين جداً في عصرنا؟ فلا شك أن هذا التأخير -كما يقول أهل الرياضيات بالمضاعفات العددية- يسبب كثرته عندنا.
الثاني: المخالفة في العقائد، فإن كل متخالفين في بعض الاعتقاد أو في بعض الاجتهاد يحصل منهم ذلك، أي: يحصل منهم التعدي بما يقع فيه مجانبة الحق والصواب.
الثالث: الاختلاف بين أهل الباطن وأهل علم الظاهر في نقد بعضهم بعضاً في بعض الأحوال.
الرابع: الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم.
الخامس: الأخذ بالتوهم مع الورع، بمعنى: الأخذ بالظنة.
ولذلك نبه أيضاً القاسمي على ما وقع في آخر الزمان، والقاسمي قريب منا في نهاية القرن الماضي، يقول: فترى من هذا أن التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي أحدثه المتأخرون بين الأمة عقوا به أئمتهم وسلفهم أمثال البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل، ومن ماثلهم من الرواة الأبرار، وقطعوا رحم الأخوة الإيمانية الذي عقده الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وجمع تحت لوائه كل من آمن بالله ورسوله، ولم يفرق بين أحد من رسله.
فإذاً: كل من ذهب إلى رأي محتجاً عليه، ومبرهناً لما غلب على ظنه، وقد بذل فيه قصارى جهده، مع صلاح نيته في توخي الحق، فلا ملام عليه ولا تثريب؛ لأنه مأجور على أي حال، ولمن قام عنده دليل على خلافه، واتضحت الحجة في غيره أن يجادله بالتي هي أحسن، ويهديه إلى الرشاد، مع حفظ الأخوة، والتظافر على المودة والفتوة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي} [العنكبوت:٤٦] ما قال بالحسنى وإنما: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:٤٦] وهم أهل كتاب، فكيف تكون مجادلتنا لمن هم أهل الإيمان وليسوا أهل كتاب؟! فإن كان عندكم لفظة هي قوله: (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فهي مرادة ومطلوبة فيما بين أهل الإيمان.