للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحرص على متاع الحياة الدنيا محك اختبار لقوة الإيمان]

وأثر آخر: هو أيضاً من أعظم الآثار الإيمانية التي نرى ضعفها في واقع حياة كثير منا إلا من رحم الله، وهو أمر المال والحرص على متاع الحياة وعلى لقمة العيش: كثير من الناس يقول لك: مالك تلقي بنفسك إلى التهلكة؟ دعنا نأكل لقمة عيش، ولعله كما في ذهني أن يكون لنا حديث في درس قادم إن شاء الله عن هذا المعنى وحده، فكم أذل الحرص أعناق الرجال! وكم ذهب الذهب بكثير من الأبصار! وكم مال المال بكثير من الرجال! فهذه الحياة الدنيا إذا جاءت المساومة عليها والضغط فيها هنا يظهر الإيمان قوياً، وتتجلى آثار الإيمان العميق، فيبقى الثبات قوياً، وتبقى الدنيا كلها لا قيمة لها في مقابل الإيمان والدين، أما ما يحصل في حياة كثير من الناس بأن يغيروا فيما نهوا، وأن يتلونوا كالحرباء، وأن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، فأولئك لا شك في ضعف إيمانهم، وفي تزعزع يقينهم، وفي غلبة الأهواء على نفوسهم وقلوبهم، نسأل الله عز وجل السلامة.

فهذا التحرر من الخوف على الرزق تظهر له أمثلة كثيرة جداً في حياة الصحابة، بل وفي حياة من جاء بعدهم من أهل الإيمان، فـ عثمان رضي الله عنه كان إنفاقه في سبيل الله كثيراً حتى إنه جهز جيش العسرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، وقصة أبي بكر وعمر شاهدة لهذا، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى التبرع بتجهيز جيش العسرة كما في سنن الترمذي قال عمر رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر، فأخذ عمر رضي الله عنه نصف رأس المال كله بما فيه -كما يقول أهل الأموال- الأصول الثابتة والأموال السائلة، وذهب متبرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما أبقيت لأهلك يا عمر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله وشطر مالي، قال: فما هو إلا أن وافى أبو بكر فوضع ما جاء به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) يعني: تصدق بكل ماله، رأس المال والأرباح، وكل شيء جعله في سبيل الله عز وجل.

ماذا يقال لمثل هذا الصنيع بالمقياس المادي؟ يقال لمثل هذا أو لفاعل هذا من الناس: إنه رجل أحمق وأخرق، وإنه رجل لا يعرف كيف يدبر أمور حياته، ولا يعرف كيف يؤمن مستقبله، ولا يعرف كيف يختزن القرش الأبيض لليوم الأسود كما يقولون، أما الصحابة وأهل الإيمان فكانوا ينفقون ولا يخشون الفقر؛ لأن الدنيا كلها في كفة، ونصرة إيمانهم ودينهم في كفة أخرى، وإذا سوموا على الإيمان بهذه الدنيا والأموال فلا أثر ولا قيمة للدنيا مطلقاً، وقد رأينا قصة عبد الله بن حذافة السهمي.

وذكر عن بعض أهل العلم أنه جيء به في فتنة خلق القرآن ودعي إليها، وكان ممن ينفق عليه من بيت مال المسلمين؛ لأنه يعلم في المساجد، فأبى أن يجيب إلى ذلك فقيل له: إذاً نقطع عنك جرايتك أي: نقطع عنك مصدر الرزق، فماذا قال هذا المؤمن الواثق بالله عز وجل الذي ظهر أثر إيمانه جلياً واضحاً؟ تقول الرواية: فأخذ بزر قميصه فخلعه، ثم قال به في وجه من أمامه قائلاً: ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كمثل زري هذا، هذه الدنيا لا قيمة لها عندنا، نخلعها وقت ما نشاء مثل الثوب أخلعه وقت ما أشاء، وألبسه وقت ما أشاء، ويبقى الجسم والجسد هو الأساس.

وهكذا نجد الأمثلة في ذلك كثيرة، والإمام أحمد قد ضرب في ذلك مثلاً، فإنه ما خشي الموت، ولا مالت به الدنيا حتى جاءه من يهون عليه فيقول له: إن لك أبناء، وإن لك نساء، وإن لك كذا وكذا فقال لمحدثه: يا أبا سعيد إن كان هذا عقلك فاسترح.

أي: هذه عقول تفكر بالتفكير الدنيء بالتفكير الذي لا يرتقي إلى مستوى الإيمان العظيم.