ثم بذل عليه الصلاة والسلام في باب عظيم من أعظم الأبواب التي يقل فيها البذل، وهو بذله في الدعوة وهداية الناس، وإرشادهم إلى الخير، وحرصه على أن يمنعهم من الوقوع في الهلاك والتردي في عاجل دنياهم وعاقب أخراهم، فهو عليه الصلاة والسلام لم يترك موقفاً من المواقف ولا مجمعاً من المجامع ولا بقعة من البقاع إلا وسعى ليوصل إليها دعوته، فكان في الفترة المكية يغشى مجالس قريش وصناديدها، مع أنهم كانوا أهل علو واستكبار وأهل إيذاء وإهانة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.
وكان صلى الله عليه وسلم يلقي دعوته لله سبحانه وتعالى، فيبذلها للضالين والكافرين والمعرضين فضلاً عن المقبلين والراغبين والطالبين، وما كان صلى الله عليه وسلم يمنع شيئاً من علم وهدى وإرشاد، بل كان يسعى إلى بذله؛ حتى كان يتتبع القبائل في مواضعها؛ فخرج إلى الطائف، ثم هاجر إلى المدينة، ثم مضى بعد ذلك مرة أخرى إلى الطائف فاتحاً، ثم مضى مجاهداً، ثم أرسل الكتب إلى الملوك من حول الجزيرة كلها، وكانت نفسه تتقطع حسرات على ضلال الضالين وكفر الكافرين، حتى قال جل وعلا:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:٦]، أي: أنت مهلك نفسك في إثر أولئك القوم المعرضين تريد أن تردهم عن موارد الهلاك، كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:(إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش والدواب يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار).