[صور للقلوب الحية والنفوس المؤمنة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن حياة القلوب بالنور والإيمان هي حقيقة التقوى.
وسأجعل للحديث تتمة، أقف في هذا المقام وقفات مع صور للقلوب الحية، والنفوس المؤمنة، التي كانت تدقق وتبحث عن أدق الدقائق في مثل هذه المعاني، مستحضرة ما روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد في مسنده: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه).
ولقد جلس الشافعي إلى مالك رضي الله عنه يتلقى عنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى فيه نجابة وفراسة فقال: يا غلام! لا تهلك نعمة الله بمعصية الله.
وكان الشافعي يقول مقالته المشهورة: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي تأملوا هذه المواقف العظيمة الجليلة: موقف الفاروق عمر رضي الله عنه، ذلك الرجل الذي نعرف منه جانب شدته وقوته في الحق، لكنه كان يحمل بين جنبيه قلباً رقيقاً، فكان يقول رحمه الله يبين سبب مواقفه: والله لولا يوم القيامة لكان غير ما ترون.
في أخريات عمره كان يحدث بعض الصحابة بعد أن اتسعت رقعة الإسلام، وتعاظمت فتوحاته، وكثرت الخيرات في أرضه، وإذا بـ عمر يتحدث ويبكي ثم قال: والله لئن أبقاني الله عز وجل لأصنع وأصنعن، حتى لا يكون لأرامل ونساء العراق ما يحتجن إليه.
وذكرت عنه المقالة الأخرى الشهيرة: لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لم لم أسو لها الطريق؟ وفي حديث أنس الشهير في الصحيح: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات).
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتحسر وتتندم على تغير الأحوال واختلافها عما كانت عليه في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتتمثل بقول الشاعر: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في زمن كجلد الأجرب وهو زمن كان الصحابة فيه كثيرين، وكان القرآن فيه قد ملأ القلوب وملأ المحاريب، وكان فيه الجهاد في كل الثغور وكان فيه وكان فيه.
وروى البخاري تعليقاً عن أبي الدرداء: أنه دخل على أم الدرداء مغضباً؛ فقالت: مالك يا أبا الدرداء؟! قال: والله ما أعرف من أمة محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً.
لم يبق شيء يدله على ما كان عليه العهد الأول إلا صلاة الجماعة، وأما غير ذلك فقد رأى فيه تغيراً وتبدلاً.
وها نحن نجد مثل هذه المعاني التي فاضت من الصحابة والتابعين، والتي كانت فيها المعاني تختلف عما نحن عليه، ألم نسمع ونقرأ أن السلف كان يعزي بعضهم بعضاً إذا فاتت أحدهم صلاة الجماعة، إنها مصيبة عندهم، إنها كارثة في حسهم، فكم من جماعات، وكم من صلوات قد ضاعت وفاتت وأخرت وأرجئت! وكم من واجبات نتأخر عنها فلا ندركها إلا في آخر وقتها؟ وأين هي الصفوف الأولى؟ وأين هو التبكير إلى التكبير وأين وأين؟ واستمع وزد من ذلك ما شئت، فإن صور أسلافنا عظيمة، قال ابن سيرين رحمه الله وقد ركبته بعض الديون: إني لأعلم الذنب الذي حملت به الدين.
كانوا يرون أن كل شيء يقع بهم له تفسير يتعلق بالطاعة والمعصية، فهذا ركبته الديون فلم يقل: ثمة خلل اقتصادي، ولم يقل: إن تخطيطي التجاري لم يكن جيداً، بل قال: إني لأعلم الذنب الذي حملت به الدين، قلت لرجل: يا مفلس! قبل أربعين سنة.
كلمة كأنما اعتدى بها على الآخر، فقال: تلك هي سبب هذا الدين.
وكيف ذكرها منذ أربعين، وأحسب أننا لا نستطيع أن نذكر ذنوبنا في أربعين ساعة؟ لأن الذنوب عندهم قليلة فصار إحصاؤها يسيراً، وتذكرها قريباً.
وكان رجل من السلف يسير إلى المسجد، فاعترضه سفيه فشتمه، فأي شيء قال؟ قال: اللهم اغفر لي ذنبي الذي سلط به هذا علي، أي: لم يسلط علي هذا إلا بذنب أذنبته، ولذلك لم يتوجه إليه بل توجه إلى ربه.
نكتفي بهذا ولعلنا نعيد القول فيه ونزيد؛ لتحيا قلوبنا، وترشد عقولنا، وتزكو نفوسنا، وتصلح سرائرنا، وتحسن أقوالنا، وتعظم صالحاتنا وطاعاتنا، إنه سبحانه وتعالى القدير الذي إذا سألناه أعطانا، والكريم الذي إذا التجأنا إليه أفاض علينا.
نسألك اللهم حياة قلوبنا، وعظمة يقيننا، وزيادة إيماننا، وصلاح قلوبنا، وزكاة نفوسنا، وعبرة عيوننا.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمورنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأعقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم توفنا على التوحيد والطاعات، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:٥٦].
وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر منهم ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم صل وسلم وأكرم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.