[الإصلاح الثاني الذي دعا إليه شعيب هو الامتثال لأمر الله]
قال الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف:٨٥]؛ لأجل دنيا تريدون تحصيل المزيد من الأرباح فيها بتنكب الحق وارتكاب الغش، وقال لهم: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) ما معنى ذلك؟ أراكم بخير في معيشتكم ورزقكم، أي: فيما تأخذون من الحلال وإن كان قليلاً، فأخاف أن تسلبوا ما أنتم عليه بانتهاككم محارم الله، قاله ابن كثير في تفسيره.
إذاً: الإصلاح يعتمد كذلك على الطاعة لله عز وجل، والموافقة لشرعه، والمجانبة لمحادته ومشاقته ومخالفة أمره، فإن دواعي الفساد والإفساد إنما مبعثها مخالفة حكم الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما كان من التزام بأمر الله وأمر رسوله فذلك فيه الصلاح والخير، ولذلك قال: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود:٨٤] أي: ما استقمتم على أمر الله، ثم حذر فقال: {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:٨٤] بأن تفسد أحوالكم في دنياكم، وتحل بكم نقمة الله عز وجل، وينزل بكم سخطه، وتنزع منكم بركته في الدنيا، ثم تكون العاقبة السيئة والعياذ بالله في الآخرة.
فالأساس الإصلاحي الثاني الذي تصلح به أحوال العباد بعد حسن الاعتقاد: حسن الامتثال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:٢٤]، وهذه دعوات قرآنية كثيرة، ودعوات نبوية عديدة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
وينبغي أن نعلم سوء أثر مخالفة أمر الله في واقعنا، لم افترقت النفوس؟ لم اختلفت الآراء؟ لم تفرقت الصفوف؟ لم قست القلوب؟ لم جحدت العيون وقحطت؟ لم تغيرت أحوالنا؟ إنه بسبب ضعف إيماننا وكثرة معاصينا، والمعصية آثارها عظيمة، وأضرارها وخيمة ووبيلة، والمؤمن الحق يدرك تماماً أن أثر المعصية عظيم.
ولقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم يرون أثر المعصية في الأمر اليسير الهين الذي لا نلقي له بالاً، فكانوا إذا ساء خلق زوجة أحدهم أو دابته رد ذلك إلى قصور في طاعته، أو إلى غفلة في ارتكاب شيء من المعاصي، كانوا يرون أن كل عارض يعرض لهم فيه ضرب من الابتلاء أو ضرب من العناء، إنما هو بسبب شيء من غفلتهم عن أمر الله أو اجترائهم على معصية الله.
واليوم قد كثرت الذنوب والمعاصي، وتعاظمت حتى صارت كأمثال الجبال، بل ملأت ما بين السماء والأرض، ثم بعد ذلك نسأل: ما السبب في تغير أحوالنا؟! ولماذا لا نستطيع أن نحقق مرادنا ولا أن نصل إلى مبتغانا، ولا أن نصلح أحوالنا، ولا أن نداوي أمراضنا؟! إن ذلك لا يكون ولن يكون إلا بالصلح مع الله عز وجل، وإصلاح ما بيننا وبينه، وبالتعظيم والوفاء لرسولنا صلى الله عليه وسلم، استمساكاً بهديه واتباعاً لسنته، وذباً عنه عليه الصلاة والسلام.
ولذلك حذر شعيب هنا من هذه المعصية، فماذا كان جواب القوم، وإن كان لا يعنينا ذلك كثيراً في هذا المقام، لأننا إنما نريد أن ننظر إلى لسان المصلح ماذا كان يقول؛ وإلى نظريته التي يقدمها إلى توجيهاته التي يذكرها.
لكنهم في سياق ردهم عليه جاءوا بالتهكم والسخرية، وأتوا بما يستوجبون به سخط الله عز وجل، وحلول الفساد في أرضهم وديارهم، وقبل ذلك في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، قالوا: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:٨٧]، لم يقولوا ذلك ذكراً لصفات حسنة فيه، ولكنهم يقولون: إن مقتضى ما تقوله لنا يدلنا على أنك لست بحليم ولا رشيد.
يقولون ذلك على سبيل التهكم، ويذكرون هنا قضية مهمة في شأن الإصلاح، وللأسف أن بعض بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا يشابهونهم في قولهم: (أصلاتك تأمرنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وهؤلاء يقولون: لماذا تدخلون أمر الاعتقاد والدين في صلب الحياة؟ ما للدين وللاقتصاد؟ ما للدين وللسياسة؟ وما للدين وللحياة الاجتماعية؟ ما للدين وللحياة العلمية والتقنية؟ أرادوا أن يقولوا له: بماذا جئتنا يا شعيب؟ نحن ننكر ونستنكر ولا نقبل ولا نفهم أن تكون صلاتك التي تقوم بها، أو ديانتك التي جئت بها، تريد أن تغير أحوال حياتنا كلها، تريد أن تضبط وتحكم تفاعلات جوارحنا ومعاملاتنا في سائر جوانب حياتنا! وذلكم ما لعله اليوم يقال في ديار الإسلام، وبألسنة بعض أبناء الإسلام الذين يقولون: لماذا لا نأخذ النظريات الاقتصادية من الشرق؟ لماذا لا نأخذ النظم السياسية من االغرب؟ لماذا لا نستفيد في جوانب الحياة الاجتماعية من هنا أو هناك؟ وكأننا فقراء لا منهج عندنا! كأننا أمة مبتوتة لا تاريخ لها! كأنه ليس بين أيدينا النور التام الذي تبحث عنه البشرية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم! لقد أصبحنا اليوم نسمع عن الديمقراطية والحرية وغيرها من المصطلحات، ولم نعد نسمع ذكراً لآية من كتاب الله، أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صفحة مشرقة من صفحات كثيرة ملئ بها تاريخنا الذي رسم الحياة الإنسانية على القاعدة الإيمانية، وفي ظلال الشريعة الإسلامية، فأتى بالتقدم والرخاء الاقتصادي، وأتى بالعدالة السياسية والقضائية، وأتى بأحسن القوانين والأحوال الاجتماعية، وأقام فوق ذلك حضارة مدنية وتقدماً علمياً، ما تزال أمم اليوم تعود نهضتها إليه، ويرجع مبتدؤها إليه، فأين أمة الإسلام عن حقيقة الإصلاح في جوهر المنهج القرآني والرباني؟