للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نماذج من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستيعاب والاقتداء به]

علينا أن نحسن الدعوة وأساليبها وطرائقها لنستميل القلوب والعقول بصورة نظرية قوية، وبصورة عملية أقوى منها، وحسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً وقدوة في هذا الشأن؛ لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام تعامل مع الصغار والأطفال، وتعامل مع الشيوخ والكبار، وخاطب الرجال وأقنع النساء، وسلَّم له الموافق والمخالف، واستمال بحجته عقول المعرضين والمعاندين، ودمغت أدلته حجج المغالطين والمرائين وأصحاب الشبهات والمغالطات.

لقد كان في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنموذج الداعية الذي يستوعب كل صنف من أصناف البشر في كل حالة من حالات الحياة عبر كل ظرف من ظروف الزمان والمكان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام مثالاً يقتدى به، فلقد اشرأبت إليه الأعناق، وأحبته سويداء القلوب، وتعلقت به الأمة كلها، حتى إن مخالفيه شهدوا له بالحق والعدل والفضل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان الداعية الكامل الذي ينبغي أن يحتذى ويقتدى به.

فهذا على سبيل المثال ثمامة بن أثال، وقد كان على كفره، فأسره بعض المسلمين واقتادوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فربطه في المسجد عليه الصلاة والسلام لينظر إلى هذا المجتمع المسلم كيف يؤدي صلاته وعبادته، وكيف يسجد لربه ومولاه، وكيف يطيع رسوله وقدوته صلى الله عليه وسلم، وكيف تمتزج صفوفه وتلتحم، وكيف تأتلف قلوبهم وتعتدل، وكيف يمثل نموذجاً للمجتمعات البشرية على أرقى مستوى يمكن أن يعيشه الإنسان في هذه الأرض، وإذا بهذا البصر لذلك الكافر، وبذلك العقل لذلك المعرض، وبذلك القلب لذلك الذي حرم من نور الإيمان يفكر ويشتغل ويتدبر، ثم يخاطبه النبي عليه الصلاة والسلام فيقول له: (أما آن لك يا ثمامة أن تسلم؟) فيقول ثمامة: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن ترد المال نعطك.

ثم بعد ذلك أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يقيم عليه سيفاً ليقطع رقبته، ودون أن يثير له رعباً ينخلع له قلبه، ودون أن يمارس عليه ضغطاً يرغمه على أن يقتنع بما لا يقبله عقله ولا منطقه، بل ترك له بعد هذا الأسلوب الدعويّ المؤثر الخيار، فإذا به يخرج من المسجد فيذهب إلى أقرب مكان فيغتسل، ثم يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلن إسلامه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتحول إلى معين ناصر للدعوة الإسلامية، ويمنع الميرة عن قريش.

وكذلك الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، جاء إلى مكة وسبقت إلى أذنه الدعايات المغرضة، والحملات الإعلامية المشوهة أن لا تسمع محمداً صلى الله عليه وسلم ولا تجلس إليه؛ لأنه يفرق بين المرء وزوجه، ولأنه يسفه أدياننا وتراثنا وآباءنا وأجدادنا.

وظلوا به كذلك حتى نجحوا نوعاً ما، لكنه نجاح هزيل لا يعتمد على قوة الإقناع، نجحوا إلى أن وصل نجاحهم أن أخذ كرسفاً -أي: قطناً- ووضعه في أذنيه ليصم أذنه عن سماع محمد صلى الله عليه وسلم، وكما نقول: حبل الكذب قصير.

ثم إنه فكر بعقله وقال: أنا رجل من عقلاء الناس أعرف الكلام صوابه وخطأه، وأعرف الشعر نظمه ونثره، فلماذا لا أسمع فإن وجدت خيراً عرفت، وإن وجدت شراً أنكرت؟! فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما هي إلا كلمات يسيرة حتى دخل الإيمان قلبه، وأقنعت الحجة عقله، وانقلب من فوره إلى مسلم لا يقبل بعلاقة مع زوجه ومع أبيه إلا أن تكون علاقة بمقياس هذا الدين، ووفق حقيقة التوحيد.

وهكذا سهيل بن عمرو الذي جاء يفاوض في صلح الحديبية بغطرسة الكفر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم).

فيقول سهيل: لا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.

فيغض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف؛ لأنه يريد أن يسحب الحجج الشكلية الواهية، وأن يبتعد عن المعارك الجانبية الكاذبة ليخلص إلى جوهر الموضوع، قال سهيل اكتب: باسمك اللهم.

فقال لـ علي: (اكتب: باسمك اللهم)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لو كنا نعلم أنك رسول الله لما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله).

وفي بعض الآثار أن علياً رضي الله عنه أبى أن يكتب من غيظه لتعنت المشركين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أصر عليه، وفي بعض الآثار والروايات أنه قال لأصحابه: (أشيروا على مكانها.

فلما أشاروا إلى موضعها مسحها عليه الصلاة والسلام بيده) وهذا يمثل لنا قمة القدرة على ضبط النفس لأجل استيعاب الموقف وإقامة الحجة وإعلاء الراية.

وهكذا في مواقف شتى أختمها بحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي نعلم من قصته لما صلى وعطس في الصلاة، ثم حمد الله وسط الصلاة، ولم يكن يعرف النهي عن الكلام في الصلاة، قال: (فجعلوا يحدون النظر إلي -يعني: الصحابة- قال: فقلت -على طبيعته وسليقته في أثناء صلاته-: واثكل أمياه! مالكم تنظرون إلي؟! قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم فعلمت أنهم يسكتونني فسكت، فلما قضيت الصلاة دعا بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي فوالله ما نهرني ولا كهرني ولا ضربني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده خيراً منه قط، إنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس).

وهكذا أمثلة كثيرة جداً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الاستيعاب عند الناس؛ لأنه ليس كل الناس يستوعبون الأمر كاملاً، ولا يأخذونه على تمامه، فقال عليه الصلاة والسلام: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله).