للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسئولية عمر المالية ومنهجه في ذلك]

ثم هناك أمر ثالث في مسئولية عمر المالية، وما أدراك ما ارتباط المسئولية بالنواحي المالية، كان عمر يرسم في ذلك على نفسه ثم على ولاته صورة من أعظم الصور التي يضمن بها ضبط الحقوق ووضعها في مواضعها، فقال للناس من أول يوم وفي بداية أمره: (لكم علي ألا أجتبي من خراجكم ولا من فيئكم شيئاً إلا من وجهه -أي: الشرعي- ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج إلا في حقه، ثم قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وان افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا أيسرت قضيت، أما أموالكم وخراجكم وبيت مال المسلمين فلا حق له فيه إلا كحق ولي اليتيم، إن افتقر أكل بالمعروف بقدر ما يحتاج مقابل عمله، وإن أيسر استغنى، قال: (وإن استغنيت استعففت)، أي: أنه استغنى من أن يأخذ شيئاً، وإن أخذ أخذ بالمعروف، ثم إن أيسر قضى إلى بيت مال المسلمين.

وهكذا كان عمر في صورته العملية، فقد كان يعمل في بعض الأحوال بالتجارة؛ ليكسب قوته وقوت عياله، فأرسل مرة إلى رجل من الصحابة من يستقرض له أربعة آلاف درهم يريد أن يستعين بها في أمر تجارة من الشام، فرد الصحابي رسول عمر، وقال له: قل له: يأخذها من بيت المال، فإذا غنم فليردها.

فغضب عمر وأسرها في نفسه، وشق ذلك عليه، فلما لقي ذلك الصحابي قال له: (أنت القائل: فليأخذها من بيت المال ثم ليردها؟ قال: نعم، قال: ولعلي إن فعلت ذلك فمت قلتم: أخذها أمير المؤمنين دعوها له، وأؤخذ بها يوم القيامة، لا والله! لا أقدر، ولكن أردت أن آخذها من رجل صحيح شحيح مثلك، حتى إذا مت أخذها من ورثتي)، وهكذا كانت عفة عمر عن الأموال العامة وسياسته ومسئوليته فيها، وقد جاء إليه مرة حفص بن أبي العاص، ودخل إلى بيت أمير المؤمنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر، وصاحب أعظم منصب في الأمة التي ورثت ملك كسرى وقيصر، فدخل على عمر، فقدم له عمر طعاماً، فأمسك الرجل يده، فقال: (مالك لا تصيب من طعامنا؟!) إنه طعام الخليفة في دار الخليفة في وقت خلافته وعظمته، فقال الرجل: إن طعامك جشب غليظ، وإني راجع إلى طعام لين قد صنع لي فأصيب منه.

فقال عمر: (أو أعجز أن آمر بشاة أو بعناق فتذبح، ثم يسلخ عنها جلدها، ثم آمر بدقيق فيعجن، ثم آمر بهما فيضرم عليهما النار؟) فوصف الطعام حتى عجب الرجل، وقال: والله! إنك لعالم بالطعام يا عمر! فقال عمر رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده! لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم لين عيشكم؛ فإني سمعت الله عز وجل يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:٢٠]).

لقد كان عمر يعف ويتوقأ ويزهد؛ لأنه تلقى ذلك من مدرسة النبوة؛ فقد دخل يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على حصير أثر في جنبه، فحزن عمر، وجرت دمعته في عينه، وطأطأ رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا عمر؟! قال عمر: كسرى وقيصر في العيش الرغيد الهنيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد بينه وبين الحصير وقاءً يقي جنباً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم)، هكذا تربى عمر رضي الله عنه، فلم يكن في قلبه تعلق بالمال، ولم يكن في نفسه شغف بالثروة، وإنما كان عنها معرضاً، وفيها زاهداً، ولمصلحة المسلمين مسخراً، ولذلك كان عمر في هذا سريع التجاوب، لقيه مرة أبو الدرداء رضي الله عنه وهو علم من أعلام الزهد في مدرسة النبوة من صحب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لـ عمر يعظه ويذكره ويذكر نفسه: (أتذكر حديثاً حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما هو يا أبا الدرداء؟! قال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)، فقال عمر: نعم، فقال أبو الدرداء: فما صنعنا بعده؟ فجعلا يتذاكران ويبكيان رضي الله عنهما وأرضاهما).

فإذاً: لم تكن المسئولية عند عمر مغنماً، ولم يكن ذلك في شأنه، وكان يطبق هذا على ولاته أيضاً، كما سنذكر.

وهناك معلم رابع من معالم مسئولية عمر وهو: الدقة والشمولية، والدقة في هذه المسئولية وشمولها لا يخرج عنها صغير ولا كبير، ولا قوي ولا ضعيف، وليس فيها محاباة لأحد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه من دقته أنه كان ينظر في إبل الصدقة أمراضها، وكان ينظر إلى البعير من إبل الصدقة قد أصابه المرض، ويقول: (إني لخائف أن أسأل عنك يوم القيامة).

وهكذا قال في الرواية المشهورة التي ذكرها ابن سعد في طبقاته وغيره: (والله! لو أن جملاً مات بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه)، فكان دقيقاً في مسئوليته غاية الدقة، حتى إن علياً رضي الله عنه رآه مرة وهو يمشي ويستبكي، فقال: (مالك يا أمير المؤمنين؟! قال: إبل من إبل الصدقة ند فأنا في أثره حتى أرجعه! فقال علي: لقد أتعبت من بعدك)، وهكذا كان عمر رضي الله عنه.

ثم إنه كان إذا أمر بأمر أو نهى عن نهي جمع أهل بيته وذوي قرابته، ثم قال لهم: (فإني قد أمرت بكذا وكذا، أو نهيت عن كذا وكذا، وإن الناس ناظرون إليكم لمكانكم مني -أي: لأنكم أقرباء الخليفة، أو أصهار أمير المؤمنين- فإذا وقعتم وقعوا، وإذا هبتم هابوا، والله! لا أرين أحداً منكم أتى ما نهيت عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدم، ومن شاء منكم فليتأخر).

وكان عمر رضي الله عنه يتنبه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢]، وكان يخشى مما ذكر الله عز وجل من وصف اليهود وكبرائهم، وأنهم كانوا يأمرون الناس بما يخالفونه، فكان يطبق ذلك على نفسه وعلى خاصة أهله.