للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية المجاهدة الصادقة]

وبعد ذلك ينبغي أن تكون هناك وسيلة ثالثة، فإن القرآن والسنة كانا على مر العصور، ولكن كان هناك في بعض الأحوال اختلاف ومخالفة وبعد، ولذلك ينبغي أن نأخذ بالأمر الثالث وهو المجاهدة الصادقة، فعلينا أن نجاهد أنفسنا لنلتزم كتاب ربنا ونقتدي بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى قد وعد ووعده الحق فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩]، فلا يمكن أن ننال ثمرات الإيمان ولا أن ننال خيرات الإسلام ونحن نائمون كسالى عاجزون كل بضاعتنا هي الأماني والأحلام والأوهام.

إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام جاهدوا أنفسهم حتى هاجروا، وخلفوا الأرض والديار، وخلفوا الأموال والثمار، وخلفوا الأهل والأبناء.

إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه جاهدوا أنفسهم فخاضوا المعارك، وضربوا بالسيوف، وطعنوا بالرماح، وسالت منهم الدماء.

إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاهدوا أنفسهم فخرجوا من الجزيرة شرقاً وغرباً لينشروا نور الله، وليبلغوا دعوة الله، وليرفعوا راية الله، وليعلنوا عزة الإسلام في كل مكان.

إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه أحيوا ليلهم قياماً لله عز وجل حتى تفطرت الأقدام، وانسكبت الدموع، وسجدت الجباه، وتحركت القلوب، ونطقت الألسن تضرعاً وتذللاً بين يدي الله سبحانه وتعالى.

إن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أقاموا أعظم حضارة دنيوية في الدنيا؛ لأنهم أسسوها على نهج الإيمان، وأقاموها على منهج الإسلام، فينبغي أن ندرك أن هذا الدين لا يتحقق في هذه الحياة إلا بجهد وجهاد من أبناء المسلمين، وأن هذا الدين لا يهدى للكسالى والعاجزين، كما قال الشاعر: إسلامنا لا يستقيم عموده بدعاء شيخ في زوايا المسجد ينبغي أن ندرك أنه لا بد لنا من مجاهدة للنفس حتى نستقيم على أمر الله، ونترك الإخلاد إلى الدنيا والركون إليها والانشغال بها والتعلق والتلذذ بشهواتها وملذاتها، وينبغي أن ندرك أننا في حاجة إلى عزيمة ماضية وإيمان قوي ويقين راسخ؛ حتى نتجاوز كل هذه الجواذب كما تجاوزها النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام والعلماء والأئمة من أمة الإيمان.

أما كيف تجاوزوا ذلك؟ فتجاوزوه عندما جاهدوا أنفسهم ليهتدوا بالقرآن؛ وليقتدوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وليجددوا سيرة الأصحاب رضوان الله عليهم، فعندما فعلوا ذلك جاءتهم الآثار، وانبسطت بين يديهم الثمار، وكانت حياتهم مثلاً عظيماً من أمثلة تطبيق الإسلام التزاماً بالقرآن واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي في هذه المجاهدة أن نستشعر المراقبة والمحاسبة، وينبغي أن نجدد ذلك النهج العظيم الذي كان عليه السلف الصالح، نهج يقظة الضمير والمراقبة الدائمة لرب العالمين، نهج لم يكن فيه شقاق ولا خصام ولا اعتداء ولا حاجة لتوسع القضاء وتشعب القضايا؛ لأن الناس كانوا يراقبون ربهم، وكانوا يستشعرون قول الله جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩]، ويعلمون حقيقة قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:٥ - ٦].

إن المجاهدة تعني: أن نتحقق بمعنى الإحسان الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أن نتذكر قول أحد السلف رضوان الله عليهم لما سئل: كيف الطريق إلى غض البصر؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما حرم عليك يردعك عن ذلك، فإن لم يردعك الخوف من الله فليردعك الحياء من الله، وكلاهما لا يكون إلا باستشعار مراقبة الله.

قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩]، فينبغي أن نستشعر ذلك، وانظروا إلى واقعنا! لو كان الناس يراقبون ربهم لما اعتدى بعضهم على بعض، ولما وجدنا هذا الأكل للأموال بالباطل، ولما وجدنا هذا الاعتداء الغاشم الظالم، ولما وجدنا هذه المفاسد والفواحش التي استهان بها الناس كأنهم لا يراهم ربهم، وكأنهم لا يستحيون من خالقهم، وكأنهم لا يعظمون نعمة ربهم وفضله عليهم سبحانه وتعالى، وكأنهم يسيئون انتسابهم إلى هذا الدين وإلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]، فينبغي لنا أن نحقق هذه المراقبة، وأن نستشعر المحاسبة، كما قال عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر).

قال عز وجل: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤]، وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، وقال عن أهل الإيمان: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:٢١]، وقال عز وجل: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:٤١].

فينبغي أن نحقق هذه المجاهدة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ثمارها، وأن يجعلنا مستقيمين ثابتين عليها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.