ننتقل إلى صفحة أخرى ملامسة ومقاربة لما قبلها، وهي عموم هذه الدعوة للناس أجمعين.
فلا يظن ظان أن الدعوة خاصة بفئة معينة، بل هي عامة لجميع الناس؛ ولذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم -عندما نزل قول الله جل وعلا:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:٢١٤]- بإنذار قومه، فصعد إلى الصفا، ودعا قريشاً بطناً بطناً، وقال لهم:(ما تقولون لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، فقال أبو لهب عليه لعنة الله!: تباً لك ألهذا جمعتنا؟!).
ثم كان النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ بمبدأ التوسع في الدعوة، فلما جاءت المواسم التي كان يجتمع فيها العرب ويفدون فيها إلى مكة كان عليه الصلاة والسلام يطوف على القبائل قبيلة قبيلة، ويمر بمجالس القوم مجلساً مجلساً، ويدعو الناس هنا وهناك، إلا أن تلك الصفوة التي ذكرنا سابقاً هي التي أولاها عليه الصلاة والسلام جهده وتربيته؛ لأنها كانت قريبة منه، وكانت مستجيبة له، وكانت متلقية عنه، فكان تأثيره فيها واهتمامه بها عظيماً، وكان نتاج ذلك فيما بعد أعظم وأعظم في مسيرة الدعوة.
وفي الوقت نفسه وسع عليه الصلاة والسلام دائرة الدعوة، فبلغها لكل أحد، وأسمعها لكل أذن، وهكذا ينبغي أن يكون دعاة الإسلام اليوم: يدعون كل أحد، ويرفعون راية الإسلام، ويظهرون محاسنه، ويؤلفون الكتب، وينشرون القول الحسن، إلا أن ذلك رغم فائدته ونفعه يحتاج إلى أن يكون هناك ذلك التخصيص الذي نبه عليه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، سيما في المرحلة الأولى من دعوته عليه الصلاة والسلام، وسيأتي ما يؤكد هذا المعنى أيضاً في بقية الصفحات التي نقرأ فيها معالم دعوته صلى الله عليه وسلم، فإنه رغم هذا التوسع والانتشار في هذه الدعوة إلا أن ذلك التركيز كان يختص بتلك الفئة، فهذان معلمان مهمان: الحكمة والانتقاء، والدعوة والاتساع، وينبغي أن يسيرا معاً جنباً إلى جنب، فليست الدعوة مجرد كلمات تُذر هنا وهناك، ولا مؤلفات تكتب هنا وهناك، وإنما هي صياغة وتربية وتوجيه وتكثيف، وسيأتي ذكرها فيما يلي: