[رعاية المراعاة]
ننتقل إلى رعاية أخرى وهي: رعاية المراعاة، ولابد لنا أولاً أن ننتبه إلى أنه إذا كان هناك اختلاف بين صنفين أو نوعين، فإن التسوية بينهما تسوية كاملة يعد ظلماً، ويعد إخلالاً واختلالاً لا يمكن أن تقوم به الأمور على وجه يحسن به الانتظام في الحياة، وخذوا مثالاً على ذلك قبل أن نشرع في مقصودنا: إن كان ثمة رجل قوي في بنيته وعضلاته، وآخر ضعيف متهالك لا يكاد يستقيم في مشيته، فهل يكون من المساواة العادلة أن نقول لهذا وذاك: احملا حملاً واحداً ثقيلاً في وزنه؟! هل نقول لهما: خذا هذا الحمل الذي وزنه خمسين كيلو جرام واحملاه؟! فإذا قال الضعيف: لا أستطيع، نقول له: كلا، هذا من باب المساواة، فأنت رجل وهو رجل، وأنت ذكر وهو ذكر، فلابد أن تكون المساواة في كل شيء، فتحمل مثلما يحمل، سيقول: كلا، إن بيني وبينه اختلافاً: فأنا أضعف منه، ولا أقوى على مثل ذلك، والعاقل حينئذ يقول: احمل أنت كذا، واحمل أنت دونه، فهل يعد ذلك ظلماً أو إخلالاً؟ كلا، فإن مراعاة الاختلاف هي المساواة التكاملية، وهي التي تحصل بها الفوائد والمنافع العظيمة.
ونحن جميعاً نعلم أن الله عز وجل خلق الذكر مختلفاً عن الأنثى من حيث الخلقة الفطرية والظاهرية، فالمرأة مهيأة للحمل والولادة والإرضاع، والرجل على غير ذلك، والمساواة المطلقة تعني: أن نغمض العين عن هذا الاختلاف، وإذا أغمضت العين عن ذلك فهل سنغير في الواقع شيئاً؟ وهل سيأتينا يوم يمكن للرجل أن يقوم بالدور الذي نريده في المساواة، فنقول له: احمل وضع وأنجب ثم أرضع؟! وقد ترون ذلك مضحكاً ولكنه يلزم الغلاة في هذه المساواة، فقد جاءوا بعجب عجيب، حتى إنهم قالوا: إنه بالإمكان أن يكون ذلك مع تطور العلم.
وما يزعمونه وما يقولونه إنما هو ألفاظ ليس لها أثر عملي.
أما ديننا العظيم الذي هو من عند الله عز وجل القائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، فليس الفرق في الخلقة الظاهرية فقط، بل وفي الخلقة الباطنية، فعاطفة المرأة أرق من عاطفة الرجل، وشدة الرجل أقوى من شدة المرأة, وتركيز المرأة في تفكيرها على جوانب معينة يكون أكثر دقة في ملاحظة خفاياها، وتفكير الرجل أعم وأشمل، فلا ينظر إلى الدقائق، لكنه أقدر على معرفة بعض الأمور من المرأة.
والأم تعرف أن عند ابنها مشكلة، أو أن عنده شيء قد أحزنه أو نحو ذلك من أقل القليل في تغير وجهه، أو كلمات لسانه، أو حتى طريقة نومه، وأما الرجل فلا يلحظ من ذلك شيئاً، بل ربما يأتيه الابن فيلمح له، أو قد يصرح له، وهو لا ينتبه لشيء؛ لأن دقائق الأمور ليست في طبيعة تفكيره في بعض الجوانب العاطفية والنفسية.
وقال سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠] أي: جعل الهداية مناسبة لأصل الخلقة، أي: هدى ووفق وفطر وجعل المسار في الحياة الدنيا يتناسب مع طبيعة الخلقة في هذا الكون.
ولو نظرنا بعيداً عن الإنسان لرأينا ذلك في التكامل الفطري البشري الإنساني، أليس الإنسان يتنفس: فيأخذ الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون، والنبات على عكسه: يأخذ الكربون ويخرج الأكسجين؛ لتكتمل منظومة الحياة؟ فإذا قلنا بالمساواة، وطلبنا أن يكون النبات كالإنسان فسيموت الاثنان وتنعدم الحياة، فهذا المثل الذي أقوله ينطبق تماماً على الذين يريدون المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فإنهم يجنون بذلك جناية عظيمة على كلا الطرفين: رجلاً أو امرأة، ويجنون جناية كبيرة على الحياة الإنسانية والبشرية في هذه الدنيا قطعاً وجزماً، ونرى ذلك فيما تعلمونه من أحوال الذين ساروا شوطاً بعيداً في مثل هذه الجوانب، فلم تعد المرأة امرأة، ولم يعد الرجل رجلاً، وظهر الشذوذ، وخرجت علينا البدع العجيبة الغريبة التي لا يستطيع بعض الناس أن يصدقها بعقله، حتى إننا رأينا أموراً منكرة وشذوذاً تعف عنه الحيوانات والبهائم -أعزكم الله-، وكان حالهم كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:١٧٩].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ميسر لما خلق له)، ويدخل في عموم هذا القول البليغ منه عليه الصلاة والسلام: أن المرأة ميسرة لما خلقت له وفطرت عليه، والرجل كذلك، ولو بدلنا الأدوار لم تكن المرأة رجلاً، ولم يكن الرجل امرأة، ولم يعد عندنا لا هذا ولا ذاك، وصار عندنا أنماط وأنواع غريبة، فنحن نرى اليوم امرأة مسترجلة، ونرى رجلاً متأنثاً، فلم نعد نستطيع أن نعتمد على هذا الرجل إذا تأنث، ولا أن نركن ونسكن إلى تلك المرأة إذا استرجلت، فحينئذ تنقلب الحياة إلى شقاء وجحيم؛ لأنها خرجت عن أصل خلقة الله عز وجل، وصدق الله القائل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤]، وذلك كثيراً ما يظهر لنا.
يقول ابن عاشور رحمه الله في شأن هذه الموافقة والمواءمة والمراعاة بحسب ما يكون عليه اختلاف الخلقة: وملاك الأحكام التي ثبت فيها التفرقة بين الرجال والنساء هو الرجوع إلى حكم الفطرة، فإذا كان بين الصنفين فوارق جبلية من شأنها أن تؤثر تفرقة في اكتساب الأعمال أو إتقانها فإنها تؤثر تفرقة في أسباب الخطاب بالأحكام الشرعية بحسب غالب أحوال الصنف، أليست المرأة في طبيعتها رقة وضعفَ بدنٍ لا تتساوى مع الرجل؟ فجعل تكليف الجهاد، وواجب النفقة والكدح والعمل على الرجل؛ مناسبةً لخلقته وفطرته، وأما المرأة فليست مكلفة بالجهاد وجوباً، وإن أسهمت فيه كان لها فيه دور، وأيضاً ليست مسئولة عن النفقة، وإن أسهمت فيها كان لها ذلك وفي إطار معين لا يفسد طبيعة هذا التكامل في خلقة الحياة البشرية بين الرجال والنساء، ومن أخل بذلك جاءه ما لا تحمد عقباه.
وتنوع الوظيفة ليس فيه معنى الدونية أو الأفضلية، فليس الرجل -لكونه مكلفاً بالعمل- أفضل من المرأة؛ لأنها من جهة أخرى مكلفة بإنتاج وإنجاب البشر، ورعايتهم وتربيتهم، فإذا فضلناه لذلك فضلناها لهذا، والله عز وجل يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:٢٢٨]، وهي درجة القوامة، وقد ذكر ابن جرير عن ابن عباس ورجحه أنه قال: إن هذه الدرجة أن الرجل مطالب بأن يغض الطرف عن أخطاء الزوجة، ويحتمل منها من الهفوة والنسيان ما لا يجب أن تحتمله منه على قدم المساواة، فالمطلوب حينئذ أن يكون هو أوسع صدراً، وأكبر عقلاً، وأكثر احتمالاً لما قد تقصر فيه الزوجة أو تغفل عنه، وهي لن تكون كذلك بحكم طبيعتها، ولذلك لم تجعل هذه الدرجة درجة تفضيل لاستعراض العضلات، أو لذكر المناقب والمزايا، بل جُعلت لتحمل المسئولية، والقيام بواجب الرعاية.