كم رأينا الآيات التي تذكر لنا الوصف القلبي الرحيم الذي يريد الخير للناس في قلب محمد صلى الله عليه وسلم:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:٦] لعلك -يا محمد صلى الله عليه وسلم- مهلك نفسك، تتبع القوم، وتأتي إلى مجالسهم لتخرجهم من الظلمات إلى النور، لتخرجهم من الكفر إلى الإيمان، لتخرجهم من الجحود إلى اليقين.
تلك القلوب الرحيمة يصب فيها هذا الصوم الرقة والرحمة فتلين، سواء أكان لينها بلين العبادة والطاعة والذكر، أم كان لينها بلين المحبة والألفة والأخوة:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الزمر:٢٢] قال ابن كثير: هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد عن الحق، وقوله:(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: فلا تلين لذكره، ولا تخشع، ولا تعي، ولا تفهم.
فهذا حظنا من شهرنا، رقة ورحمة تفيض بها القلوب، ثم تأتي من بعد ذلك الأخوة والألفة التي تفيض مياه محبتها ومودتها في القلوب، فنرى الأواصر وهي تمتد، ونرى الصلات وهي تزداد، ونرى الرحم وهي توصل، ونرى البِشر ونرى المحبة وهي تفيض، نرى صوراً تمنع تلك الشحناء والبغضاء، لماذا؟ لأن هذه العبادة فيها صلة بالله، وفيها شعور بألم الجوع والحرمان، وفيها رجاء رحمة الله عز وجل، (الراحمون يرحمهم الرحمن)، فمن أراد أن يتعرض لرحمة الله فليعرض نفسه إلى رحمة عباده، فيكون حينئذ مهيأ القلب لذلك، ولعلنا ندرك تماماً المنة العظمى التي امتن بها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم عندما خاطبه في شأن أصحابه:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}[الأنفال:٦٢ - ٦٣] تلك القلوب والمحبة التي كانت صورة نموذجية في حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم اقتسموا الأموال والديار، يوم اختلطوا كأنما أخوتهم أعظم وأقوى من أخوة الرحم واللحم والدم والنسب، وذلك الذي صاغه الإيمان يتجدد في مثل هذه الفريضة؛ لأننا نشعر تماماً بحقيقة هذه الأخوة والألفة والمحبة من هذا الوجه.