للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف قريش بعد نقضها لعهد الحديبية]

الموقف الثالث هو موقف عظيم يكشف لنا عن مسألة مهمة نحتاج إليها، وهي أن قريشاً عندما وقع منها نقض العهد بإعانتها لبكر على خزاعة ومدها بالسلاح -وفي بعض الروايات أن بعضاً من قريش شاركوا في القتال- علمت أن هذا الأمر سوف يكون سبباً في أن النبي صلى الله عليه وسلم ينصر من حالفوه وهم خزاعة، فأرسلت قريش أبا سفيان إلى المدينة ليحول بين ذلك النقض الذي نقضته قريش وبين ما يترتب عليه من نصر النبي عليه الصلاة والسلام لخزاعة، فذهب أبو سفيان في مفاوضة يريد فيها من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعتذر عما وقع، وأن يمدد الصلح مرة أخرى لعشر سنوات قادمة، فلما قدم إلى المدينة أراد أن يستشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن هذا الأمر الذي أحدثته قريش أمر عظيم لا يجرؤ أبو سفيان أن يخاطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

فذهب أول ما ذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يريده أن يكون وسيطاً له حتى يدخل به على الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يحدثه في أمر الاعتذار عما وقع والتجديد لما مضى من العهد، فأبى علي رضي الله عنه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم على أمر لا نعلمه، ووالله لا أكلمه في ذلك.

وكان قبل ذلك أو بعده -على اختلاف في روايات السيرة- قد مضى أبو سفيان إلى أم حبيبة بنته، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليها طوت الفراش عنه، فقال: أرغبت بي عنه، أم رغبت به عني؟ يعني: هل طويت الفراش لأنه لا يليق بي فستأتيني بأحسن منه، أم أنك طويت الفراش لأنه لا يصح أن أجلس عليه؟ فقالت له: إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك امرؤ كافر، ولما رأى ذلك، قال: لقد أصابك بعدي شر يا بنية! وذهب إلى أبي بكر فرده كذلك، ثم ذهب إلى عمر، وكان خطأ فادحاً من أبي سفيان أن ذهب إلى عمر، وعمر هو من هو في شدته على المشركين والكافرين وعلى أعداء الإسلام أجمعين، فقال له: أتستشفع بي إلى رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به.

فعلم أبو سفيان أنه لا أمل له في ذلك فرجع.

وهنا أمر مهم، هو أن المسلمين على قلب رجل واحد، وأن رأيهم وقولهم مرتبط بقيادتهم التي تمتثل لدينهم وترعى مصالحهم، ولذلك كلهم أعرض عن أبي سفيان، ولم يجد أبو سفيان مدخلاً ينفذ به في المسلمين، بل وجد الأبواب كلها موصدة محكمة، ولم يستطع أن يدخل من عاطفة قرابة مع ابنته، ولا من عاطفة صداقة مع بعض الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ووجد أن الأمر محسوم وأنه لا مجال لشيء من ذلك.