[أهمية الحرص على فضائل الأعمال في شهر رمضان]
ونحن اليوم في بداية هذا الشهر، وستمر بنا نهايته إن طالت الأعمار وكتب الله لنا الحياة، وتأتينا في هذه البدايات كل أحاديث وآيات الفضائل والترغيب في هذا الشهر، وبيان أن أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وأن لله في كل ليلة عتقاء، وفيه مضاعة الأجر، وبيان صلة الصيام بالقرآن، وصلة الصيام بالشفاعة، وصلة الصيام بالجنة، وصلة الصيام بالرحمة، وصلة الصيام بصلة الرحم.
كل هذه الفضائل تجتمع وتحتشد وتصطف في أول الشهر لتحقق أمرين اثنين أساسيين: أولهما: شحذ الهمة والعزيمة وإثارة الشوق والعاطفة لنيل كل هذه الفضائل والبركات والخيرات التي جعلها الله عز وجل مختصة بهذا الشهر الكريم.
فنحن مع هذه البداية لن نعرج على كل الفضائل ومحاسن الأعمال وصالح الأقوال التي تختص بهذا الشهر الكريم؛ لأنها كثيرة جداً، وهي شاملة للإسلام كله ولأعماله وأركانه كلها؛ فنحن في هذا الشهر نؤدي فريضة الصيام، ونحن نصلي ونؤدي فريضة الصلاة، ونزداد من الصلاة مع الفريضة تطوعات، ونحن أيضاً نزكي ونقصد بزكاتنا شهر رمضان لإصابة الفضل والخير والأجر والثواب، ونحن نعتمر عمرة في رمضان كحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نأتي بكل الأمور، ونحن أيضاً في هذا الشهر نصل الأرحام، ونطعم الطعام، ونصلي بالليل والناس نيام.
كل هذه الفضائل تحتشد أمامنا في البدايات لتقوي العزائم وتعلي الهمم، ولتجعل العزم أكيداً، والحزم جاداً من البداية، أما أن نقول: نبدأ بقليل ثم نكثر ونكثر فكلا، فإن البداية غالباً ولابد أن تكون الأعظم والأكبر، ثم قد يحصل الفتور، ويتداركه الإنسان في الآخر، كما سنذكر.
والأمر الثاني: البدء بالقوة والأكثر، والحرص على الأعظم والأكبر: ولست مع من يرى أن الناس فيهم ضعف، وأننا في البداية نأخذهم بالأقل، فمثلاً: الذي يريد أن يختم القرآن ويقول: سأتلو في كل يوم جزءاً، ويأخذ بهذا الحد، فإن قصر عنه بعد ذلك فصار في يوم لا يقرأ جزءاً فما معنى ذلك؟ معناه: أن الشهر سينقضي وهو لم يختم، لكنه لو قال: إنه سيقرأ في كل يوم جزئين، ثم قصر عن ذلك فمرة قرأ جزئين ومرة جزءاً ونصفاً ومرة جزئين إلا ربعاً ومرة جزءاً وربعاً ومرة قصر إلى الجزء فإنه بكل حال سيصل إلى مراده قطعاً.
ولو قال: سوف أصلي، وأقل القليل سأبدأ بركعتين من التراويح، ثم أزيد؛ فإنه إن طالت الركعتين سيلتمس الجواز، يعني: يصلي ركعة لو استطاع، لكنه لو قال: أصلي عشراً وقبل الفجر أصلي عشراً أخرى أو كذا فإنه إن قصر يكون تقصيره إلى أقل من ذلك.
وهكذا ينبغي أن نفعل؛ لأن طبائع النفوس لا تأخذ بالجد وقتاً طويلاً، فقد تفتر من بعد، فإذا أخذناها بالراحة والقلة في البداية فنحن إلى ما هو أدنى وأقل واصلون ولا شك، فما الذي سيجبر هذا الضعف؟ نحن نبدأ أقوياء ثم نضعف، لكن إن بدأنا ضعفاء فالله يستر على حالنا ومصيرنا.
وإذا بدأنا بقوة قد نضعف، فما الذي يدرك ضعفنا هذا؟ ستدركه النهايات، فعندما يقترب الشهر من آخره تأتينا أمور أخرى: أولها: أن هذا الموسم سينقضي، وإذا كنا في الأول نقول: الشهر ثلاثون يوماً، وإذا مضى يومان أو ثلاثة بقي ثمانية وعشرون أو سبعة وعشرون، فنحن إذا كنا في الخامس والعشرين -على سبيل المثال- فلن يبقى إلا خمسة أيام، فالعد التنازلي نهاية السباق، كما ترون المتسابقين يجرون يجرون في أول الانطلاق بقوة، فإذا كان السباق طويلاً نجدهم في وسطه وهم يخففون السرعة، فإذا قربت النهاية ولاحت لهم أطلق كل منهم كل طاقته ليصل قبل غيره، وليحقق المراد الذي لأجله سار تلك المسافة الطويلة، والمحروم منهم من يسقط ويقعد قبل النهاية، فإن كل الذي مضى له من العمل والجري لم يحصل له به أثر ونتيجة.
وعندما تأتي النهايات تأتينا أيضاً رحمة من الله عز وجل، فقد خصت العشر الأواخر كما نعلم جميعاً بخصوصية فوق الخصوصية الرمضانية، فرمضان كله أجر وفضل، ومع ذلك جاءت العشر بعبادات أخرى خاصة بها كالاعتكاف، وبأجر خاص بها في ليلة القدر، وبأمور فعلية فعلها النبي عليه الصلاة والسلام فيها؛ لنجعل مرة أخرى النشاط يعود من جديد والقوة تعود مرة أخرى والهمة ترتفع، حتى إذا جاءت تلك الليالي زاد العمل فيها ليلاً ونهاراً، وانقطع الإنسان عن دنياه وعن مشاغلها، وعن أهله وزوجه؛ ليتفرغ لطاعة ربه ولعبادته ومناجاته سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: لم يبق إلا هذه الأيام القليلة والليالي المعدودة من هذا الموسم الذي تضاعف أجره، والعشر زاد فضلها، فكأنه يقول: هذا هو ختام السباق، فيشتد فيه عزمه، وتقوى فيه همته، وينشط في عبادته، ويكثر في كل أنواع الخير تلاوة وذكراً ودعاءً وصلاة وإنفاقاً لكل ما يستطيع.
وبين البداية والنهاية يأتي الوسط، فإن كان ضعيفاً كان الأمر هيناً، ولكننا نرى في أحوالنا سوءاً ومخالفة، منها ما أشرت إليه بأن الناس يبدءون بضعف، وإذا بدءوا بضعف فهم إلى الضعف بعد ذلك أكثر، وبعضهم يقول: نبدأ بالتراويح بالأقل فالأقل، ثم نزيد قليلاً فقليلاً، وأنا أتبعه وإن كنت لا أقتنع بذلك؛ لأن الناس يستثقلون في الوسط ما لا يستثقلونه في البداية.
ولكن الأمر الأدهى والأمر هو ما يكون من حال الناس في آخر الشهر، فبدلاً من أن يجددوا سيرة القوة وأن يدركوا نهاية المدة وأن يضاعفوا الجهد والطاقة، نجدهم يكثرون اللهو والصفق في الأسواق، وتتواصل الأسواق ليلاً ونهاراً، ويفرغ الناس أحسن وأغلى وأثمن الأوقات وأفضل اللحظات والساعات ليقضوها في التسوق والبيع والشراء وفي أمور أقل ما يقال فيها: إنها تضيع الأعلى وتأخذ بالأدنى.