الثاني: الرفق والحكمة لا العنف والشدة: فإن معالجة الأمور تقتضي ذلك، وإنه ليس ينفعنا أن نعظم الصراخ، وأن نجدد الهجوم على من نرى خطأه، وإنما كيف نتأتى للأمور من طرقها السليمة والصحيحة، فإن الرفق مظنة الحكمة، وإن الحكمة مع الرفق يمكن أن تكشف نوراً تكون به البصيرة، وتعرف به الحقائق، وتلتمس وتكتشف به الأسباب، وأما الفورة والحماسة مع السرعة والشدة غالباً ما تفوت كثيراً من هذه المصالح، وكثيراً مما نحتاج إليه في مثل هذه المواقف، والله جل وعلا قال:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[الشورى:٤٣]، وذلك بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أنه من ظلم فله الحق أن ينتصر لنفسه، لكن الآية ختمت بذلك، وقال السعدي في تفسيره معلقاً: صبر على ما ينال من أذى الخلق، وغفر لهم بأن سمح لهم عما يصدر عنهم.
{إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[الشورى:٤٣] أي: من الأمور التي حث الله عليها وأكدها، وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزم والهمم وذوي الألباب والبصائر، فإن ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل من أشق شيء عليها، والصبر على الأذى، والصفح عنه ومغفرته، ومقابلته بالإحسان أشق وأشق، ولكنه أنفع في الوقت نفسه.
وهذا المعلم الأعظم الذي هو قدوتنا المثلى عليه الصلاة والسلام يدخل عليه بعض اليهود ويسلمون عليه سلاماً مغموساً فيه حقدهم، فيقولون:(السام عليك -بدلاً من السلام عليك، ويقصدون: الموت لك- فيرد المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: وعليكم، ثم إذا بـ عائشة بعد خروجهم تبدي غيظها وتتكلم، فيطالبها الرسول عليه الصلاة والسلام بالهدوء والرفق، فتقول: يا رسول الله! ألم تسمع ما يقولون لك؟! فيقول: يا عائشة! أما سمعت ما قلت لهم؟ قلت لهم: وعليكم) وكان هذا من هدوئه وحكمته صلى الله عليه وسلم، ثم قال في هذا الحديث لـ عائشة:(إن الله يحب الرفق في الأمر كله).
وفي رواية البخاري أيضاً من حديث عائشة:(إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)، وعند مسلم من رواية عائشة أيضاً:(إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)، والحديث عند الترمذي أيضاً من رواية أبي الدرداء: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير)، وذلك يدلنا على أن الرفق والأناة مفضية إلى القدرة على التركيز والإدراك والتفكير الصائب المتزن الذي يقع به بإذن الله عز وجل الوصول إلى الحق والصواب.
وجاء من حديث عائشة عند مسلم أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، كأمر المدرس مع تلاميذه إن أخطئوا وأراد تقويمهم، فإن أخذ بالرفق والحكمة كان ذلك زيناً له، وسمة تزيده إجلالاً واحتراماً عندهم، فإذا طاش واندفع مع دواعي طبعه فإن ذلك يظهره في صورة غير محمودة لمعلم ومربٍ لتلاميذه، ومثل ذلك في الأب مع أبنائه، ومثل ذلك في المسئول مع مسئوليه، ومثل ذلك في الراعي مع الرعية، فإن الرفق عظيم يعالج الأمور ويحسمها.
ولا يعني الرفق ترك العقوبات لمن استحقها واستوجبها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا جمع بين هذا وهذا، فكان يرفق، ولكن إذا بلغت الحدود وأقيمت الشهادات أنفذ حكم الله سبحانه وتعالى، وقبل ذلك كان يقول:(ادرءوا الحدود فيما بينكم، فأيما حد بلغني فقد وجب)، قبل أن تصل إلى الحاكم الشرعي في أمور من المعاصي ربما لا تعظم بها المفاسد، يمكن أن يكون الوعظ والتذكير والتوبة كافية في ذلك، أما إذا بلغ الأمر إلى الحاكم فإنه لابد أن يقيم الحكم، وأن ينفذه؛ لأن حكم الله لا بد من إنفاذه، وذلكم أمره ظاهر وبين.