[وضوح الرؤية وقوة العصمة]
أولاً: وضوح الرؤية، وقوة العصمة: لابد أن نكون على بصيرة واعية، ووضوح تام، وبينة فاصلة من أمر ديننا، وكتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لسنا في شك من أي قضية وحقيقة قرآنية أو نبوية، لسنا نبحث هنا وهناك، لسنا نقبل ما يروج من الشائعات، وما يكون له صدى واسع ودوي كبير من الأخبار أو الأقوال أو المقالات؛ لأننا كما قال الحق عز وجل في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:٥٧]، بينة من الله واضحة، آيات أنوارها ساطعة، أحكام أدلتها باهرة، لابد أن تكون معرفتنا بذلك ووضوح رؤيتنا فيه حتى في سنن الله الماضية، وفي حكمته البالغة التي نقرؤها في آيات كتابه، ونرى تطبيقها في واقع الحياة؛ كل ذلك له أهميته.
ومن ذلك لا يمكن حينئذ أن يكون شك ولا ارتياب، ولا حيرة ولا اضطراب، إذ هذه هي البينة الواضحة، والرؤية التي ليس فيها غبش مطلقاً، قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس:١٠٥].
قال الله جل وعلا في خطابه لرسوله ليخاطب البشرية كلها والناس أجمعين: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:١٠٤ - ١٠٦].
ثم من بعد آيات قليلة يعود الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرح بها أمام الناس كلهم والخليقة جمعاء قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:١٠٨ - ١٠٩].
نبقى على ثوابتنا، ونعرف عاقبتنا وخاتمتنا؛ لأن الله جل وعلا قد قال: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:٤٩]، ونوقن أيضاً في وضوح رؤيتنا أن الدائرة على الكافرين، كما كسر الكياسرة، وقصر القياصرة، وأغرق فرعون، فإن ظلمة اليوم من الغزاة المعتدين أمريكان أو بريطانيين عاقبتهم ولو بعد حين إلى ذل وهوان، فلا ينبغي أن تكون هناك عجلة، ولا ينبغي أن تكون هناك حيرة، قد تكون لهم جولة، وقد يكون لهم نصر في دائرة أو ميدان، فهل يعني ذلك أن يدب اليأس إلى النفوس؟ وهل يعني ذلك أن الكفر ظهر على الإيمان؟ وهل يعني ذلك أن نتشكك في حقائق القرآن؟ وهل يعني ذلك أن تضطرب الآراء وتحتار؟! لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ببصيرته النافذة، وكان قد أعلن عن نتائج كثير من معاركه وغزواته قبل بدئها، ألم يكن في يوم بدر قد قال: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم: هذا مصرع أبي جهل، هذا مصرع عقبة بن أبي معيط، هذا مصرع أمية بن خلف) لماذا؟ لأن يقينه بالله كان عظيماً؛ ولأنه يعرف أن سنة الله ماضية في نصرة من نصر الله، إن تخلف وعد فلم يكن تخلفه لذات الوعد؛ وإنما لتخلف شروط تحقق الوعد، فلا ينبغي أن نسرف في عواطفنا، وأن نجاري هذه الموجات الإعلامية التي تتلاعب بعواطف الناس، ثم لا يكون لهم من بصيرتهم ورؤيتهم ويقينهم ومعرفتهم القرآنية والإسلامية ما يكشفون به ذلك.
ولقد كانت كسرة في يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فأي شيء صنع عليه الصلاة والسلام؟ هل استسلم لليأس؟ وهل شك أصحاب محمد في نبوته؟ وهل ظنوا أن الإسلام قد ذهبت ريحه وانقضت أيامه وزالت دولته؟ لم يكن من ذلك شيء، بل خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يليه ليلاقوا عدوهم؛ ليثبتوا أن الهزيمة لم تصل إلى القلوب، وأنها لم تبلغ النفوس، وأنها لم تخالط العقول، وأنها لم تغير الشعور، ذلك هو الذي كان يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقصد مجرد المواجهة المادية بقدر ما كان يريد تثبيت الروح والقوة والفهم المعنوي لأصحابه رضوان الله عليهم.
وهكذا كان في كل واقعة عليه الصلاة والسلام، يوم بدأت حنين بما بدأت به من ارتداد بعض الأصحاب في أول الأمر، واختلاط الرؤية، وتضارب جيش المسلمين، ونزول السهام والنبال عليهم كوقع المطر؛ ثبت عليه الصلاة والسلام، وأي شيء كان يقول؟ بعض الذين كانوا من مسلمة الفتح لم يثبت الإيمان في قلوبهم، قال بعضهم: بطل اليوم سحر محمد.
لم يكن عندهم وضوح رؤية، لم يكن عندهم صدق إيمان بعد، فهل نقول مثل ذلك إن وقعت واقعة أو حلت كارثة؟ كلا؛ ينبغي ألا يكون ذلك، لقد قالها عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، رفع بها صوته، ثبت في موقعه، تقدم في مواجهة عدوه، ثابت العقول إلى رشدها، ورجعت العزائم إلى قوتها، انعطفت الجيوش إلى مقدمتها، فعادت الجولة لأهل الإسلام والإيمان.
ويوم كسر المسلمون في بغداد في محرم من عام (٦٥٦هـ)، وكان ما كان من قتل ثمانمائة ألف وألف ألف كما ذكر ابن كثير، واستحر القتل أربعين يوماً، وسالت الميازيب من دماء المسلمين، وبلغ نتن جيفهم إلى بلاد الشام؛ قامت الأمة من كبوتها، ونهضت من وهدتها، واستعادت عزيمتها؛ لأن كتابها بين يديها؛ لأن سنة نبيها صلى الله عليه وسلم أمامها؛ لأن القوة المولدة موجودة، بقي أن نوصلها بنا، وأن نرجع إليها لنشحن أنفسنا بها.
وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان في يوم الجمعة عام ثمانية وخمسين وستمائة من الهجرة، أي: بعد أقل من ثلاثة أعوام؛ نهض المسلمون، وواجهوا التتار، وكسروهم، وهزموهم، وتتبعوهم حتى لم يبق منهم أحد.
وذلك ما ينبغي أن نعرفه، فليست مواجهتنا لأهل الكفر والعدوان في ميدان واحد، ولا في جولة واحدة، ولا في دولة واحدة، فإن رأينا ذلك كذلك، وخسرنا الجولة، أو ذهبت الدولة كأنما نسينا كل شيء! كلا ينبغي أن ندرك أننا نواجه أعداءنا على مدى طويل من الزمان كما فعلوا وكما يفعلون، وأننا نواجههم في كل الميادين قتالية وفكرية وخلقية وعقدية كما يفعلون: قطفوا الزهرة قالت من ورائي برعم سوف يثور قطعوا البرعم قالت غيره ينبني في رحم الجذور قلعوا الجذر من التربة قالت إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور كامن ثأري بأعماق الثرى وغداً سوف يرى كل الورى كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور وذلك ينبغي أن نستحضره في رؤيتنا: أن يبقى ولاؤنا لله، ولعباد الله، ولدين الله، وأن يبقى بغضنا لأعداء الله، وتربصنا بهم الدوائر، وشحذ هممنا للقائهم، وتغذية أبنائنا ورضاع ذلك مع لبانهم؛ فإنها ليست جولة واحدة إن اغتصاب الأرض لا يخفينا فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور والعطش الطويل لا يخفينا فالماء يبقى دائماً في باطن الصخور هزمتم الجيش إلا أنكم لم تهزموا الشعور قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور أبقوا الجذور للإيمان في قلوبكم فسوف تبسق شجرته، وتينع ثمرته، ويعظم ظله ويشمخ بإذن الله عز وجل رغم أنف كل قوى الأرض قاطبة وإن عظمت، وإن تضخمت، وإن هول الناس هولها وعظموا أمرها!