قال إبراهيم بن شيبان: من أراد أن يكون معدوداً في الأحرار، مذكوراً في الأبرار؛ فليخلص عبادة ربه.
إنك بدون ذلك التعلق تبقى عبداً مأسوراً لحاجتك، ذليلاً لمن تمد إليه يدك غير الله، مقهوراً لكل من تخافه غير الله سبحانه وتعالى، أما إذا علقت القلب به، وأخلصت النية له، ووجهت القصد والوقت والجهد في طاعته ومرضاته، فأنت حر الأحرار، وأنت بر الأبرار، وأنت الناجي من عذاب النار بإذنه سبحانه وتعالى، وكذلك نجد هذا فيما كان يقوله أسلافنا.
سئل ذو النون رحمه الله: فيم يجد العبد الخلاص؟ وكلنا نسأل هذا السؤال كلنا نريد الخلاص كلنا نريد النجاة كلنا نريد السعادة، فقال رحمه الله: الخلاص في الإخلاص، فإذا أخلص تخلص من كل هم دنياه، تخلص من كل تسلط أعدائه، وتخلص من كل حاجات نفسه الدنية الدنيوية؛ ليبقى سامياً عالياً مرتقياً على الدنيا وما فيها، وعلى أهل الدنيا جميعاًَ، فإن قوته وصلته بالله تعطيه من الغنى والاستغناء ما لا يكون أهل الأرض كلهم يوازون عنده جناح بعوضة كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم:(لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، ونحن لنا مطامع إذا علقناها بالله وجدنا الخير والسعادة والحرية، وإذا علقناها بأسباب الحياة لم نجد ما يشبع النهمة ويروي الظمأ، ثم كنا أسرى ضعفاء لا نستطيع أن نحقق مرادنا في دنيانا، ونحشى ألا نحقق نجاتنا في أخرانا.
قال ابن تيمية رحمه الله: كلما طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له، وحريته عما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، فإن احتجت إلى غير الله فأنت أسيره.
وتأمل أخي المؤمن ماذا تريد من الدنيا؟ وماذا تريد في الآخرة؟ اسأل نفسك، وتلمس الإجابة، فإنك تجدها كلها متعلقة بأمر الله وطاعته، وتعليق القلب به، وربط الحبال بما عنده سبحانه وتعالى، ألست تريد تكثير الحسنات وتكفير السيئات؟ استمع لقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}[الطلاق:٥] ألست تريد العلم والفقه والفهم؟ استمع لقول الله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}[البقرة:٢٨٢] ألست تريد الفرج والرزق ورغد العيش؟ استمع لقول الله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:٢ - ٣] ألست تريد الفرح والسرور والسعادة؟ استمع لقول الله:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:٥٨] المعين عذبٌ متدفق فأين الواردون الشاربون؟ والطريق واضحٌ مستقيم فأين السالكون المشمرون؟ تأملوا لنجد أن شقاءنا مغروس في نفوسنا بما أعرضت عن ذكر الله، وبما فرطت من التعلق بالله سبحانه وتعالى، لنجد أن كل ما نحتاج إليه كما أسلفنا القول في بدء حديثنا مبدؤه ومنتهاه، أوله وآخره، سراؤه وضراؤه، دنياه وأخراه مرتبطٌ بحقيقة التعلق بالله، ألستم تعرفون أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ ألسنا نحفظ قوله:(عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)؟ ألسنا نعرف فقه الابتلاء الذي يزيل الهم والغم، وينفس الكرب في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:(ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا تعب ولا همٍ ولا غمٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)؟ ألسنا نعرف وصيته العظيمة قالها لغلامٍ في مقتبل عمره:(احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)؟ أين نحن من هذا؟! نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى كتابه، وإلى هدي رسوله، وأن يروي ظمأ قلوبنا، وأن يطهر كدر نفوسنا بالإقبال عليه والتعلق به، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء فيه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.