[مثال في أقسام بني إسرائيل في حمل الدين]
خذ هذا المثل القرآني الذي هو بحد ذاته كافٍ في الموعظة والعبرة، ولا يحتاج إلى مزيد تعليق، ساقه الله لنا من قصص الأمم السابقة قبلنا، ومن حال بني إسرائيل على وجه الخصوص، قال عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:١٦٨ - ١٧٠] فالقصة كاملة، والصورة واضحة، والتفاوت هو الذي يقع في حال أمتنا اليوم، كما في قوله سبحانه: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف:١٦٨]، والناس مراتب في الأخذ بدين الله والاستمساك به والحرص على الفرائض والاستكثار من النوافل والتقصير في جانب آخر.
قال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف:١٦٨] أي: الفتن والامتحانات، وقال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢] فمنهم من سقط ووقع، ومنهم من امتنع وارتفع، ثم جاءت الصورة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:١٦٩].
قال ابن كثير: من جاء بعدهم لم يكن فيهم صلاح {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:١٦٩]، استبدلوا كتاب الله وشرع الله ودين الله، وأخذوا الدنيا، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وتخلوا عن دينهم وعن أمانتهم وعن كتاب ربهم وعن تكليف ربهم وأوامره ونواهيه، وركنوا إلى دنياهم، وفضلوا هذا على ذاك، وأخذوا واختاروا الذي هو أدنى.
ثم ماذا بعد ذلك؟ بين الحق سبحانه وتعالى الأماني والحيل الشيطانية والأوهام النفسية التي يعللون بها أنفسهم: {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:١٦٩] ورحمة الله واسعة، لكن انظر إلى حقيقة العمل: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:١٦٩]، تدور الدائرة مرة أخرى، ويقدمون غير الدين، ويفضلون الدنيا، ويسيرون مع الأهواء ويتركون دينهم وراءهم ظهرياً، ولذا قال سبحانه: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:١٦٩] ذلك حالهم، قال سعيد بن جبير: يعملون الذنب ثم يستغفرون الله، وإن عرض لهم ذلك الذنب أخذوه.
وقال مجاهد: لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراماً، ويتمنون المغفرة.
فخاطبهم الله بقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:١٦٩] فأين الميثاق؟ وأين الأمانة؟ وأين القوة؟ وأين الثقل الذي أنزل عليهم؟ {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:١٦٩] وأن يثبتوا عليه وأن ينطقوا به وأن يكونوا معه وأن يجعلوا علائقهم مبتوتة أو موصولة استناداً إليه؟ لكنهم كما قال عز وجل: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:١٦٩] ولم يفعلوا ذلك عن جهل، بل هم عالمون بكتاب الله، عارفون بأحكامه، دارسون لتشريعاته، وهل اليوم العلم في أمة الإسلام منعدم؟ وهل المعرفة بكتاب الله معدومة وتفاسيره بالمئات مطبوعة ومسموعة ومنشورة؟ فهل هناك جهل؟ وهل أحد لا يعرف أن مواجهة الأعداء واجبة وأن نصرة الأولياء لازمة؟ وأن الأمر في الأخذ بدين الله أمانة في عنق كل فرد؟ هل مثل هذا غائب؟! ثم ذكر الوصف للناجين المستثنيين من ذلك كله فقال: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:١٧٠] وهي القراءة التي نقرأها، وهذا التشديد كما تقول العلماء: زيادة المبنى دليل على زيادة المعنى.
فهم لا يُمسِكُون بالكتاب بل يُمَسِّكُون، أي -كما قال ابن كثير: اعتصموا به واقتدوا بأوامره وتركوا زواجره.
ذلك هو الاستمساك القوي في كل حال وفي كل آن، على نفس الإنسان قبل أن يكون على غيره، وتلك هي النجاة وحدها، وبدونها لا نجاة.
نسأل الله عز وجل أن يجعل الدين في قلوبنا أعظم شيء، وأوكد هم، وأكبر شغل، وأن يجعلنا مسخرين لنصرة دينه عاملين به، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ إيماننا وديننا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.