الصفحة التاسعة هي: الهجرة النبوية إلى المدينة: وهي أيضاً مهمة غاية الأهمية في حياة الدعوة الإسلامية؛ ذلك أنها تمثل مرحلة التخطيط والتمكين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد هيأ لهذه الهجرة تهيئة عظيمة، فإنه قد يسّر أولاً من خلال البيعة الأولى للأنصار كوكبة آمنت به وبرسالته عليه الصلاة والسلام، ثم بعث معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليوسع دائرة الدعوة في هذه الأرض الجديدة؛ لتكون أرضاً لهذه الدعوة، ولإقامة دولة الإسلام فيها، ثم جعل أصحابه بعد ذلك يهاجرون إليها زرافات ووحداناً، فلما شاع الإسلام في المدينة، أحكم النبي عليه الصلاة والسلام خطته، وهيأ أمره كما نعلم في هجرته من الأسباب الكثيرة التي اتخذها، وليس هذا موضع سردها، فإنه أخذ جنوباً إلى غار ثور بدلاً من أن يأخذ شمالاً إلى طريق المدينة، ونعلم أنه اختبأ في الغار ثلاثة أيام، وأنه اتخذ طريقاً غير الطرق المسلوكة إلى غير ذلك، فهذه الصورة تبيّن لنا: أن الدعوة الإسلامية ينبغي أن تسعى إلى أن تمكن في الأرض، وإلى أن تهيأ لها الأسباب لإقامة المجتمع الإسلامي الذي يحكّم شرع الله عز وجل، ويصبغ الحياة كلها صبغة إسلامية ليس فيها قبول لحكم ولا لشرع ولا لأمر ولا لعادة ولا لتقليد إلا وفق شرع الله سبحانه وتعالى.
فلا يُكتفى أن يكون المسلم مسلماً في نفسه، ولا يُكتفى أن يكون جمع من المسلمين في بيئة جاهلية، أو في أوضاع كفرية، بل ينبغي أن يسعى المسلمون إلى أن يوجدوا مجتمعاً كاملاً برجاله ونسائه وأطفاله وبيوته، مجتمعاً كاملاً باقتصاده واجتماعه وسياسته، مجتمعاً كاملاً في أفراده وفي جماعاته، مجتمعاً كاملاً في سلمه وفي حربه كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
فكل تلك المراحل التي مرت بها الدعوة في حياته عليه الصلاة والسلام كانت مراحل ممهدة ومهيأة، وكان عليه الصلاة والسلام يرنو إلى هذه المرحلة، وإلى هذا المعلم المهم من معالم الدعوة، وقد أخذ له أهبته بصور كثيرة شتى مما مضى: فتلك التربية والتكوين لهذه الفئة القوية الراسخة، وذلك الانطلاق الذي شرق فيه وغرب حتى وجد القلوب المؤمنة من الأنصار، وتلك التهيئة الدعوية ببعثة مصعب بن عمير رضي الله عنه الداعية الذي فتح بيوت الأنصار في المدينة المنورة، ونورها بهذا الإسلام، إضافة إلى إحكامه عليه الصلاة والسلام لخطة هجرته حتى قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة؛ فقد كانت هذه المرحلة من المراحل المهمة في حياة الدعوة، وهي مرحلة التخطيط الذي له بُعد في المدى، وبعد في الزمن، وعمق في النظرة، وشمول فيما يحيط بالدعوة من المتغيرات والمستجدات، واختيار وانتقاء، ثم كان بعد ذلك التمكين وإقامة دولة الإسلام.
فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إذا بها تستقبله، وهي قد أعطته بيعتها في بيعة العقبة الأولى والثانية، وقد أعطته قيادها فهو القائد المسود فيها، وقد أعطته حكمها فهو الذي يبلغ شرع الله لها، فكان ذلك هو الفتح الأعظم، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أمرت بقرية تأكل القرى، وإني أراها ذات نخل، بين لابتين) يعني أنه أمر بالهجرة إلى قرية هذا وصفها، تأكل القرى: أي تكون منطلقاً وقاعدة للدعوة الإسلامية، وهكذا كان فعله عليه الصلاة والسلام، فلابد أن توجد أرض، ويوجد مجتمع وحكم وشرع إسلامي يكون منطلقاً لهذه الدعوة.