للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[امتنان الله على عباده ببعثته]

الوجه الثالث: منة الله جل وعلا ببعثته على العباد والخلائق؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:١٦٤] أي: أن الله منّ على البشرية ببعثة هذا الرسول الكريم؛ ليستنقذها من الضلال إلى الهدى، وليخرجها من الظلمات إلى النور.

ومنّ الله سبحانه وتعالى بهذه البعثة عليهم لما فيه نجاح أمرهم في دنياهم وفلاح أمرهم في أخراهم بإذنه سبحانه وتعالى، والله جل وعلا يقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:٢] واستطراداً أقول: انظروا إلى الآيات التي جاءت في سياق القول الرباني، ففيها تقديم التزكية على التعليم، والآيات التي جاءت في سياق القول البشري في قصة إبراهيم عليه السلام قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:١٢٩]؛ لأن التزكية في المنهج الرباني هي أولى من العلم، وهي الثمرة التي ينبغي أن يركز عليها أهل العلم؛ لأن العلم إذا لم يثمر طهارة قلب وزكاة نفس فليس بعلم نافع للإنسان، بل قد يكون حجة عليه نسأل الله عز وجل السلامة.

أذكر أيضاً هنا حديثاً لـ عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه حيث يقول: (لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قسم الأموال في المؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح، وأعطاهم حتى يتألف قلوبهم ولم يعط الأنصار كما كان يعطيهم، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم شيئاً، لماذا أعطى الرسول هؤلاء ولم يعطنا؟ كأنهم رأوا أنه أعطاهم لقرابتهم منه؛ ولأنهم من قريش أو نحو ذلك، وعلم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فجاء إلى الأنصار وقال لهم: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم وموجدة وجدتموها علي؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟ وكانوا كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ، ثم قال عليه الصلاة والسلام متأدباً ومعطياً الحق من نفسه لهم: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله؟! أجيبوني! قالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: أما إنكم لو شئتم لقلتم: ألم تأتنا فقيراً فأغنيناك؟ وطريداً فآويناك؟ أما إنكم لو قلتم لصدقتم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكت الأنصار وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الناس دثار، والأنصار شعار، ففرح الأنصار وبكوا حتى اخضلت لحاهم من الدموع) وذلك من تأثرهم، وهذا من بيان وجه منة الله عز وجل على الخلق ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف كانت منته ظاهرة في قوله لأصحابه رضوان الله عليهم، ومنته أعظم على من جاء بعد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.