[محو الجهل بالعلم]
أول هذه الجوانب الإصلاحية: من الجهل إلى العلم.
كم نحن مدركون لحقيقة خطر نفوسنا التي بين جنبينا! قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:٥٣]، نحمل بين أضلعنا سبباً إن لم نفطن له ونحرص على تقويمه كان من أسباب ضعفنا وانحرافنا.
قال ابن القيم رحمه الله فيما ينبغي معرفته عن النفس الأمارة بالسوء: أن يعرف أنها جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح.
ويبين الواجب فيقول: إنه لا بد من بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم.
ولقد استعاذ الرسل والأنبياء من الجهل بمعناه الواسع، إذ ليس الجهل هو مجرد ترك العلم أو عدم العلم، بل ربما يكون مع العلم، وذلك بما يكون من إعراض، وعدم التزام واهتمام واقتداء، فيكون ذلك صرفاً للناس عن الحق، واتباعاً للنفس في الهوى والشهوة وغير ذلك، ومن هنا جاء على لسان موسى عليه السلام كما في كتاب الله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:٦٧]، قال القرطبي رحمه الله: وفي هذا دليل على قبح الجهل، وأنه يفسد الدين.
ومن هنا لا بد لنا أن ندرك هذه القضية الخطيرة، وأن نجعل لجهلنا علاجاً شافياً كما أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (إنما شفاء العي السؤال)، وذلك أمر مهم لا مناص من الأخذ به؛ لأنه إن وجد ذلك الجهل بوصفه العام وجدت معه كثير من الصور السلبية من الإعراض والجحود، ومن فعل المنكرات، وارتكاب السيئات؛ لأن هذا هو الذي قاله الله جل وعلا، وبينه سبباً وعلة كما في قصة لوط عليه السلام: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:٥٥]، وكان سياق حديث الأنبياء لرسلهم يبين هذه العلة، كما قال هود عليه السلام: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:٢٣].
ولعلنا هنا نسائل أنفسنا: ما الذي نعرفه من ديننا الذي يعادينا الناس من أجله، وتتكالب الأمم علينا لوجوده في قلوبنا وفي نفوسنا وفي عقولنا وفي مجتمعاتنا؟ ألا نستحيي أن يكون علمنا بكتاب ربنا أن نقرأ منه آيات من عام لعام، وأن يكون فهمنا له أقل من القليل، وأن يكون تدبرنا في آياته نادراً عابراً غير أصيل ولا مكين في واقعنا وفي حياتنا؟! ومن هنا أقولها، ونحتاج أن نذكر بها، وقد أسلفنا فيها أحاديث وليس حديثاً واحداً: تعلموا القرآن تلاوة واستماعاً، تدبراً وانتفاعاً.
عجباً! نحن عرب، لساننا لسان القرآن الكريم، ثم إذا بنا في قصار السور لا في كبارها لا نعرف مفردات ولا معاني للكلمات، ونقرأ بعضاً من هذه الآيات وكثيراً ما يغيب عنا جزء أصيل من معانيها، وتمر الأيام، وتتوالى الأعوام وكأن شيئاً لا ينقصنا، وكأن قضية خطيرة ليست حاضرة بيننا: أن نعرف كتاب ربنا الذي هو أساس عزنا، ودستور حياتنا، ونور بصائرنا، وهداية قلوبنا، كيف نزعم ذلك ونحن عنه بعيدون، ونحن به غير عالمين، ونحن في واقعنا إلى حد ما في كثير من الأحوال غير متبعين؟ إنها قضية مهمة! وأعجب من ذلك أننا لا نعرف هذا ولا نسعى إليه مع توفر الأسباب وكثرة الوسائل، فمن لا يحسن القراءة لن يعجز أن يصغي إلى حسن التلاوة، ومن لا يجد الوقت ليذهب إلى درس، فإنه يستطيع أن يحضر الدرس إليه، ويسمعه في شريط في بيته أو سيارته، ومن لا يستطيع هذا ولا ذاك يستطيع أن يقرأه في كتاب، ويستطيع أن يسمعه في مذياع، ويستطيع أن يراه في شاشة؛ لكنها الهمة التي قصرت، والغفلة التي عمت، لكنه صدأ القلوب الذي ران عليها، لكنه سهولة أن نوزع العلل والأخطاء على الآخرين، ولا ندرك قصورنا الذي نحتاج إلى علاجه.
تعلموا السنة النبوية، سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أحاديثه التي لم تترك لنا شيئاً من أمور حياتنا إلا وجاءت لنا فيه بإرشاد ودليل وهدي منه عليه الصلاة والسلام، كم نحفظ من الأحاديث؟! كم نفقه من معانيها؟! كم قرأنا من شروحها؟! كم نعرف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟! إن الواقع محزن، ولا بد أن ندركه، ليس على مستوى عوام الناس، بل في طلبة الجامعة من تسأله وتتحدث معه إلى أمور أساسية كلية من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والأحداث الكبرى فيها، فلا يرد جواباً، ولا يحوز علماً، ولا يعرف شيئاً، ثم بعد ذلك نقول: إننا نريد أن نفعل ونفعل، ونريد أن نواجه أعداءنا، ونحن لم نعرف الهدي الذي نسير عليه، والهدى والنور الذي نتبعه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:٢١].
هل قرأت أخي كتاباً كاملاً في السيرة؟ هل قرأت كتاباً كاملاً في حديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مهمات الأحوال والأعمال التي تحتاج إليها؟ إن لم تكن تستطيع ذلك فاعلم -والحجة قائمة عليك- أنها موجودة مسجلة، كل الكتب الكبرى والأساسية، وكذلك الأحاديث التي تبث وتذاع، وكذلك السيرة التي تدرس في الدروس كلها بين أيدينا، ولكنها -مرة أخرى- الهمم العاجزة، والدنيا المشغلة، والتراخي العظيم الذي نعجز به ونقصر فيه عن كثير من واجباتنا.
ثم نقول: تعلموا الفرائض.
وهذا من العجائب! بعض أهل الإسلام ليس في شرق الأرض ولا غربها، بل في هذه الديار، بل في هذه المساجد، بل في هذه المدارس التي تدرس علوم الدين؛ لا يعرفون أحكاماً من فرائض الإسلام وأركانه الخمسة، وفي ديار الإسلام الأخرى كذلك ما هو مثل هذا وأكثر! ولقد قلت مرة، ولمست شيئاً من ذلك منذ سنوات في زيارة لبعض بلاد الإسلام، قلت: إن سألت فيها مسلماً عن أركان الإسلام هل عددها ستة أو خمسة؟ فمن أجابك بإجابة صحيحة فعض عليه بالنواجذ؛ فإنه من خير القوم؛ لأن الجهل قد عم، والناس لا يسألون، وهذا عجب! تجد من الناس من يبلغ به العمر عتياً، وهو في الحكم الفقهي قد بطلت صلاته كلها؛ لأنه لا يعرف أحكام الطهارة، أو لا يأتي بها على وجهها، وغير ذلك كثير، وعندما تأتي الأسئلة في الأوقات والمناسبات تعرف أن الناس لا يفقهون من دينهم إلا اسماً عابراً، ورسماً ظاهراً إلا من رحم ربك.
ثم نقول بعد ذلك مرة أخرى، وأعيدها ثانية وثالثة، إنه حديث إلي وإليك: كم نحن مفرطون في علمنا بديننا، وفوق الجهل العظيم الذي هو جهل العلم هنالك جهل الغفلة، وجهل الترك، وجهل المعارضة والمخالفة، وهو الذي أشرنا إليه، والأمر في هذا خطير وعظيم.