[فتح عمر بن الخطاب القدس وحررها صلاح الدين ولابد من السير على دربهم لتحريرها]
كم نحن في حاجة إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا، كفانا كذبا ً على أنفسنا، كفانا ضحكاً على واقعنا، كفانا تخديراً لأنفسنا وإماتة لقلوبنا وتضليلاً لعقولنا، قد تكون الكلمات قاسية، لكنها هي اللازمة لتوقظنا، لكنها هي اللازمة لنعرف الحقيقة وندرك واقعنا، ولئن كانت تلك القضايا كلها مهمة وعظيمة فإن أكثرها أهمية وأعظمها عظمة وأعمقها تجذراً في صلتها بالدين وكيان الأمة وحضارتها وتاريخها قضية فلسطين (أرض الإسراء مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الفاتح فيها عمر، والمحرر لها صلاح، وتاريخ أمتنا يمر عبرها وخلالها منذ تلك الرحلة العظيمة التكريمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يكون حالنا مع غيرها -وإن كان مؤسفاً مؤلماً- لا ينبغي بحال أن يكرر معها ولا أن يستعاد فيها.
إنه لا بد من أن نعلن لأنفسنا أنه لا وقوف بعد الحركة، ولا فتور بعد النشاط، ولا انقطاع بعد الصلة، ولا غموض ولا ركون بعد الحديث والغضب والانتصار لدين الله عز وجل، فلنبق الجذوة مشتعلة في القلوب، والقضية حية في النفوس، ولا ننس ذكرها على الألسنة، ولا نقطع عنها الإعانة، فإن كل قضية لها جذور تدوم أعواماً وأعواماً وجراحها لا تندمل.
فإن فيهم أيتاماً ماذا يصنعون؟ وثكالى ماذا يصنعن؟ وأحوال من التغيير العظيم الذي يدمر بنيان تلك المجتمعات ويريد أن ينال من إيمان وعزة إخواننا، فلئن نسيناهم فيوشك أن يغتال إيمانهم، وأن يصاد صمودهم بالتصدع، وإن كنا نرى أنهم أعظم منا صبراً وأكثر شموخاً وثباتاً وإيماناً وصدقاً، ونحن نحتاج إلى أن نستمد منهم قوة الإيمان وعزة الإسلام وشموخ المسلمين وشجاعة المؤمنين، ولكننا أيضاً نحتاج إلى أن نذكر أنفسنا بذلك.
ولكي تبقى القضية حية فلابد من أن نرجعها إلى أصولها، ليس إلى الأحداث العارضة، ولا إلى الأمور التي تأتي وتنتهي وتنقضي، إنها أولاً قضية عقيدة ودين.
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:١]، فهل نسخت هذه الآية؟ هل ستنتهي تلاوتها من المحاريب؟! وكلما مرت على مسلم يقرأها ألا يذكر أين مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ألا يتذكر بغي اليهود؟! ألا يعرف أنه وغيره من أمة الإسلام مقصرون -وربما آثمون- ومؤاخذون إن لم يكن لهم جهد دائم وصلة مستمرة بحسب حالهم وإمكانياتهم؟! ألسنا نعرف حديث أبي ذر -وهو صحيح-: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد بني أولاً؟ قال: المسجد الحرام.
قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس.
قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً)؟ أليس هذا دليلاً على هذه الصلة العظيمة؟! نحن -أمة الإسلام- الذين أنشأنا النور والعدل والخير والبر والإحسان في تلك البقاع، ونحن أولى بها ديناً وعقيدة، وليس حقاً تاريخياً، ولا قانوناً دولياً، وليس تفاوضاً سياسياً، إنه ديننا، إنه قرآننا، إنها سنة نبينا، إنه تاريخ أمتنا، إنها قضية أعظم من أن تختزل في تلك الحركات أو تلك المداولات أو تلك الأوراق التي يوقع عليها هنا أوهناك، إنها أعظم من ذلك كله، ولكي تستمر لا بد من أن نعرف -أيضاً- أنها تاريخ مجدنا وفخارنا وعزنا.
يوم جاء عمر رضي الله عنه يعبر عن عزة الإسلام، يوم كان الإيمان حياً في القلوب، يوم حاصرها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبُهت القوم وأسقط في أيديهم أرادوا أن يروا من هو وراء هذه العظمة، فأبوا أن يسلموا مفاتيحها إلا إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء عمر، ولم يأت في المواكب الفاخرة، ولم يأت بالجيوش المدجّجة، بل جاء ومعه غلام من غلمانه وهو يسير معه على دابة ليس فيها شيء من الزينة ولا سرج ولا شيء، ويخوض الماء رضي الله عنه وأرضاه، فيخرج ويسير على قدمه، ويلقاه أبو عبيدة والمسلمون وهو بهذه الحالة المتواضعة، لم يكن يحتاج إلى شيء يعظمه؛ لأنه عظيم في نفسه، ولم يحتج إلى جمع يكثره؛ لأنه كثير بنفسه وأصالته وإيمانه، فماذا صنع عمر؟ قال له أبو عبيدة: إن القوم كذا وكذا، فلو لبست واتخذنا لك بردوناً ونحو ذلك.
يريد أن يشاكل الأوضاع القائمة، ويواكب تلك المظاهر التي كانت عند القوم.
فضرب عمر بيده على صدره ثم قال وهو يبين مظهر العظمة رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
لقد جاء النصارى أذلاء إلى الفاروق عمر، وسلموه المفتاح، فدخل ونشر العدل، وأقام الملة، ثم جاء ما جاء من الأحداث العظام، وكان -ولا يزال- في تلك البقاع قبور عشرات ومئات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل نرضى أن يعيث اليهود بأرض في باطنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهداء الذين ضحوا بدمائهم، ومن الذين عاشوا لينشروا نور الإسلام ويرفعوا رايته.
وصلاح الدين، وما أدراك ما صلاح الدين! ونحن نعرف قصته وبؤسه وحزنه الذي لازمه، وغيرته وهمته وغضبه، ونصرته وعزيمته التي ظلت تؤرق ليله وتحرك حياته، فلم تكن حياته معركة حطين، بل كانت حياته كلها جهاداً وإصلاحاً وغيضاً وتحرقاً على بلاد المسلمين الضائعة، حتى كان قبل فتح بيت المقدس يمنع نفسه من الضحك ويقول: كيف أضحك وبيت المقدس في أيدي النصارى الصليبيين؟! فكيف بنا نضحك ونلعب وننام ونلهو وننسى رغم أننا رأينا أعظم مما رأوا؟! ولذلك نقول: لكي تبقى القضية لابد من أن نستعيد تاريخها، ولابد كذلك من أن نعرف الإجرام والبغي لدى اليهود عليهم لعائن الله، فلا ينتظر منهم خير، ولا يرجى منهم نفع أو مراعاة لحقوق دولية أو غير ذلك، كما في الحديث: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، والعاقل لا يتكرر عليه الأمر مرات ومرات، فإذا كسرت هذا القانون مرة، ووطئته مرة أخرى، ودست عليه ثالثة، وألقيته وراء ظهرك رابعة فكيف يمكن أن يقال: إنه سيأتي يوم تعظمه أو تحترمه أو تخافه أو ترهبه؟! وذلك دأبهم وديدنهم.
وأخيراً لكي نعرف القضية في حدودها الصحيحة يجب أن نعرف أنها تآمر وكيد، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:١٢٠]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:٥١].
هل رأينا أكبر من هذا التآمر؟ هل رأينا أظهر من هذا التعاضد والتآزر؟ هل رأينا شيئاً يبقي لنا مجالاً لأن نضل في معرفة حقائق المتعاونين والمتآزرين والمتحالفين استراتيجياً كما يقولون؟! إذا عرفنا ذلك عرفنا أنه لابد من أن تبقى هذه القضية حية في قلوبنا، وأن لا ننسى منها شيئاً من الأحداث الجسيمة المؤلمة المحزنة، ولكنها قبل ذلك أساسها ديني عقدي تاريخي إجرامي تآمري يستهدف أمتنا كلها، ويطعن في خاصرتها، ويريد أن يغير كتابها ويبدل سنة نبيها صلى الله عليه وسلم ويمسخ تاريخها، فلابد من يقظة دائمة، وحياة في القلوب مستمرة، ومشاعر متأججة، ودعم متواصل.
هذا ما أردت أن أقوله، وهذه ليست مجرد أحداث عبرت، فإن الأمر أكبر من ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلق قلوبنا بمرضاته، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يسخرنا لنصرة هذا الدين، وأن يجعلنا من الباذلين في مواجهة المعتدين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.