[إذكاء الروح المعنوية في الملمات]
ثم لننظر إلى المثل الأعظم الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم عندما لقن المسلمين درساً عظيماً هو لهم أولى الدروس في وقتهم هذا، وفي محنتهم العصيبة التي يمرون بها الآن، إنه درس إبقاء الروح المعنوية في الملمات.
هذا حديث ابن عباس يرويه الطبراني بسند صحيح يقول فيه: (لما انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد، وبلغوا الروحاء قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، يا شر ما صنعتم، وأرادوا أن يرجعوا).
كانوا يفكرون أنهم لم ينتصروا انتصاراً حقيقياً، فلم يقتلوا القيادة، ولم يأسروا نساءً ولا رجالاً! (فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس أن يخرجوا، وانتدبوا للخروج إلى لقاء عدوهم حتى بلغوا حمراء الأسد، فبلغ ذلك كفار قريش فرجعوا ومضوا إلى مكة وهم خائفين).
وروى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها في كلامها لـ عروة بن الزبير رضي الله عنه قالت: (يا ابن أختي! كان أبواك الزبير وأبو بكر ممن انتدب لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون وخاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً كان منهم أبو بكر والزبير، وفيهم نزل قوله جل وعلا: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)) [آل عمران:١٧٢ - ١٧٤]، في أولئك النفر الذي كانوا طليعة القوم).
أما كتب السيرة فتجمع أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأهل أحد، أن لا يبقى منهم أحد حتى يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلحقوا بعدوهم، وقال (لا يتبعنا أحد لم يشهد أحداً).
فجاء جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام واستأذن أن يكون مع رسول الله وقال: (يا رسول الله! خلفني عبد الله -يعني: أباه- على بنيات له، وإني أريد أن أشهد معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وخرج المسلمون عددهم ثلاثون وستمائة رجل ما تخلف منهم رجل واحد، خرجوا والجراح تنزف دماءً، خرجوا والأرجل مصابة، والأيدي مقطعة، والجراح ما زالت عميقة غائرة، خرجوا يحملون في صدروهم إيماناً عظيماً، وفي قلوبهم عزة قعساء، خرجوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتمرون بأمره، ويسيرون وراءه لا يتخلفون عنه، يلتزمون أمر الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن إسحاق في السيرة صورة من صور ما جسرى للصحابة الذين كانت جراحهم عظيمة وغائرة، قال ابن إسحاق يروي عن رجل من الأنصار من بني عبد الأشهل: (شهدنا أحداً أنا وأخ لي، فرجعنا حين رجع الناس، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج وطلب العدو، قلت لأخي: أتفوتنا غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله ما لنا دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون).
قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثلاثة أيام بلياليها ينتظر عدوه أن يرجع، فلم يرجع، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بالنيران فتضرم، قالوا: فكان يضرم خمسمائة نار حتى عظمت هيبة المسلمين في نفوس المنافقين واليهود داخل المدينة، وفي نفوس قريش التي جرت أذيال خيبتها إلى مكة، وفي نفوس العرب من حول المدينة جميعاً.
إنها الروح المعنوية والهيبة الإيمانية التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكون لها في نفوس المؤمنين أثر سلبي، لئلا تضعف العزائم، ولئلا يدب اليأس، ولئلا يسري الوهن: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩].