لقد كان هذا القرآن هادياً للأمة الإسلامية وقت حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما كان يقع في المجتمع من حادث ولا يأتي سؤال ولا تعرض معضلة إلا ويتنزل القرآن، فتشعر الأمة المسلمة باطلاع الله عليها وبتأييده لها، وبتبصيره لمسيرتها، وهذا أوثق في تعلق القلوب بكتاب الله واستشعارها بأن القرآن إنما جاء ليعالج مشكلات هذه الحياة، وليكون دوره وطيداً وأكيداً في صميم هذه الحياة.
فانظر على سبيل المثال إلى ما وقع عندما جاء هلال بن أمية رضي الله عنه يرمي زوجته بـ شريك بن سحماء، أي: يتهم زوجته بالخيانة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عنده من الحكم المبلغ له من الله عز وجل:(البينة أو حد في ظهرك) أي: إما أن تقدم البينة -والبينة أربعة شهود يشهدون شهادة صريحة واضحة- أو حد في ظهرك؛ لأنك تستوجب حد القذف فقال الرجل قولة الغيرة الإيمانية:(أيجد أحدنا السوء في أهله فيذهب يلتمس الشهداء؟) أي: هذا أمر لا يطيقه الإنسان أن يرى الفاحشة فيذهب ويلتمس الشهداء حتى يقيم الحجة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(البينة أو حد في ظهرك)، وهذا الحكم هو المبلغ عن الله عز وجل حينذاك.
فاشتد الأمر وتعقد وتأزم، فرجل إذا قال: إنه رأى السوء في أهله فإنه لا يتوقع كذبه؛ لأنه يتهم زوجه ويهتك عرضه، ولو لم يكن صادقاً لما تجرأ على ذلك، وعندما اشتد الأمر صارت هناك أجواء متوترة، عند ذلك نزلت آيات اللعان تبين حكم الله عز وجل فيما يتعلق بالقذف بين الأزواج، فنظر الناس إلى ذلك ورأوا أن الله عز وجل مطلع عليهم، وأن القرآن علاج للمشكلات وحل للمعضلات، وأنه رعاية لمسيرة هذه الحياة.
وعندما نتأمل القرآن وهو يتنزل عبر عشر سنين نجد أن هناك من كان يقول القول من المنافقين ومن يدبر الكيد من الكافرين فيتنزل الوحي يفضح كل تلك المؤامرات، ويبين كل تلك المقالات، وعندما يتساءل بعض الصحابة عن الأحكام يتنزل الوحي بذلك، وعندما تقع المشكلة أو المعضلة وعندما تقع القسوة أو المعركة يتنزل الوحي بذلك.
فإذا بالقرآن يتقدم مسيرة الأمة المسلمة، ويبين لها حلول مشكلاتها ومعضلاتها، وينور قلوبها، ويزكي نفوسها، ويهدي عقولها، ولذلك كان القرآن في نزوله منهجاً بحد ذاته يعلم الأمة المسلمة أن القرآن لم ينزل ليُوضع في أعالي البيوت، ولم ينزل ليُتبرك به فحسب، ولم ينزل ليُتلى في المحاريب فقط، وإنما ليكون هو المهيمن والمسيطر على هذه الحياة كلها.
وقد وصف الله عز وجل كتابه الكريم فقال:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}[المائدة:٤٨]، ولذلك جاء فيه خلاصة الهدايات والخيرات التي كانت فيما مضى من الكتب.