وقفة مع شبهة منع النبي صلى الله عليه وسلم علياً عن زواج ابنة أبي جهل
وقفة ثانية في هذه الأوهام والأخطاء، ففيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم).
قال النووي رحمه الله: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه، وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو حي عليه الصلاة والسلام، وهذا بخلاف غيره، فلما كان ذلك يؤدي إلى إيذاء فاطمة وذلك يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم حرم من هذا الوجه.
أو لم يكن ممكناً الجمع بينهما من هذا الوجه، قال النووي: وقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لـ علي بقوله: (لست أحرم حلالاً، ولا أحل حراماً) ولكنه نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين: إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيهلك من آذاه، فنهى عن ذلك لتمام شفقته على علي وعلى فاطمة.
والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة.
وقيل: هذا كان بسبب الغيرة، وهو مذكور أيضاً، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:(إني أخشى أن تفتن في دينها) أي: بسبب غيرتها؛ لأنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي ابن عمها رضي الله عنهما، ولذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين هذا، فترك علي خطبتها لئلا يؤذي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وثبت أن علياًَ لم يتزوج معها غيرها، بل ولم يتسر بغيرها من السراري أو الإماء حتى توفيت رضي الله عنها وأرضاها.
هذا موجز ما ذكره النووي، وقد أفاض -أيضاً- القرطبي في شرح مسلم والمازري والقاضي عياض في هذه المعاني بنفس هذا المعنى أو قريباً منه.
وهذه المسائل عند أهل السنة والجماعة وأهل الإيمان والتقوى واضحة لا تلتبس، إلا عند الزائغين والمنحرفين الذين نسأل الله عز وجل أن يسلمنا من طرقهم، وأن يجنبنا مسالكهم، وأن يهديهم إلى سواء السبيل والصراط المستقيم؛ فإن الثلم والذم لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام معارضة لكتاب الله عز وجل ولما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ذم لهم حتى ولو لم يكن ذلك في النصوص، فلئن كان ذلك كذلك فأي قوم كان هؤلاء؟ وكيف عن لهم أن يكونوا من أصحاب النبي وحملة الدين ثم يكونوا على هذا الذي يصور من فرقتهم وخلافهم وكيد بعضهم لبعض ونحو ذلك؟ وكيف يمكن أن نفهم وندرك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تزوج أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه؟! وكيف ندرك هذه العلاقات العظيمة والمآثر الكريمة والأقوال الجليلة في مدح بعضهم بعضاً، وثناء بعضهم على بعض، ومعرفة بعضهم حق بعض، حتى قال سعد -وهو حديث مشهور- ثلاث لـ علي تمنيت لو أن لي واحدة منها، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم له:(أما أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) وذكر كذلك قوله صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فهذا كله معروف شائع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومقامهم وحالهم يدلنا على أنهم أليق بذلك وأجدر به، وإن كنا اليوم نعيب الإنسان إذا كانت له خصومة مع صديق أو حبيب أو قريب، ونرى في ذلك جفاء في طبعه، ونرى في ذلك سوءاً في خلقه؛ فكيف ينسب ذلك إلى صفوة الخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف ينسب إلى أبي بكر وهو الذي يبكي عندما يذكر أبناء وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهو الذي جعل نفسه قائماً بأمر الأمة كلها عموماً وأمر أهله صلى الله عليه وسلم خصوصاً! وكيف بـ عمر رضي الله عنه الذي كان يعطي أمهات المؤمنين أكثر ما يعطي من العطاء الذي يوزعه للمسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور معلوم ثابت في الصحيح.
فلاشك أن هذا من زيغ الفكر، ومن ظلمة القلب، ومن انحراف النهج والقصد، ومن الفتنة التي ينبغي لكل مسلم أن يبرأ منها، وأن يجتنبها، وأن يحذر الناس منها، وأن يدعو إلى غيرها، وأن ينبه الواقعين فيها، ونحن -بحمد الله عز وجل- في قلوبنا من الإيمان واليقين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتعظيم والإجلال لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يكون وقاية لنا من ذلك.