إن من أعظم معالم المسئولية العمرية منهج عمر في تولية الولاة ومحاسبتهم؛ فإنه كان يشرف بنفسه على ما تحته أو ما عنده من الأمور، وكان يولي على الآفاق والأمصار، وعلى الجند والجيوش، فأي الرجال كان يولي عمر؟ لقد كان يعرضهم عوداً عوداً، ويخبرهم واحداً واحداً، ويسأل عنهم، ثم بعد ذلك لا يطمئن حتى يتابع أعمالهم، فكان عمر رضي الله عنه يقول:(إني لأستحيي أن أستعمل رجلاً وأنا أجد أقوى منه)، أي: ولو كان هذا الرجل صالحاً لهذه المسئولية، ولكن هناك من هو أصلح منه، فإن عمر كان لا يرى جعله على هذه الولاية وهذا الشأن، وهكذا كان عمر رضي الله عنه على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حذر من مغبة آخر الزمان، وذكر من أوصافه:(أنه يوسد الأمر إلى غير أهله، وتضيع الأمانة)، أما في عهد عمر فقد كان معلم النبوة بارزاً ظاهراً، ولذلك كان كثيراً ما يستشير أصحابه ويقول: دلوني على رجل لأمر كذا وكذا، فذكروا له فلاناً من الناس، فقال: لا حاجة لي فيه، قالوا: فمن تريد يا أمير المؤمنين! قال: (أريد رجلاً إذا كان في قوم وليس أميرهم كأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو أميرهم كأنه رجل منهم)، يريد عمر نموذجاً مصغراً، وصورة منه رضي الله عنه، فقد كان شديداً في الحق ليناً لأهل الحق، كان يريد رجلاً إذا كان في الناس وليس أميرهم كأنه أميرهم من حبهم وتوقيرهم له، وتقديمهم إياه، وإذا كان فيهم وهو أمير عليهم كأنه واحد منهم من قربه منهم، ومن لينه معهم، ومن بساطته بينهم، ومن عدم غلظته عليهم، وهذه المواصفات لم تكن خيالاً أو تنظيراً، بل كان عمر يمحص ويمهد ويختبر وينتقي مثل هذه المواصفات في أعيان الصحابة وأعيان الرجال الأبطال ممن جاء بعدهم.
وكان إذا ولَّى رجلاً كتب له كتاباً، وأشهد عليه جمعاً من الأنصار والمهاجرين؛ حتى يعظم المسئولية في نفس هذا الوالي، وحتى يعظم خوف الله في قلبه، فكان يقول له فيما يكتب عليه مما قد يشابه اليوم ما يسمى بالقسم الذي يقسمه أصحاب المسئولية أو نحو ذلك، كان يقول له في كتابه:(إنه ينبغي له ألا يظلم أحداً في جسده، ولا في ماله، ولا يستغل منصبه لفائدة أو مصلحة له، ولا لمن يلوذ به)، وكان يقول لولاته:(إني لم أستعملكم على دماء المسلمين ولا على أعراضهم، ولكن أستعملتكم لتقيموا الصلاة، وتقسموا بينهم، وتحكموا بالعدل.
إني لم أبعثكم جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة؛ فلا تضربوا المسلمين فتضلوهم، ولا تمدحوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم فتظلموهم)، وكان يشهد على هذا الكلام عندما يولي الولايات، وكان يأخذ على كل والٍ ألا يغلق بابه دون الناس.
بل قد ورد في بعض السير أنه بلغه أن بعض ولاته اتخذ قصراً أو داراً وجعل له باباً، فبعث إليه محمد بن مسلمة -وكان المفتش الإداري العام عند عمر رضي الله عنه- وبعث معه من يحرق هذا الباب أول بلوغه، وقال:(اتخذت باباً دون الناس حتى لا يصل إليك ذو الحاجة المظلوم؟!) وهكذا كانت ولايته رضي الله عنه، وقد كان ولاته من الصحابة، فكيف إذا كانوا من غيرهم؟! ورد أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري:(أن سو بين الناس في مجلسك وجاهك؛ حتى لا ييئس ضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك).
ثم بعد هذا الاختيار والانتقاء والوصايا والإشهاد لا يقنع بذلك، فقد قال مرة لجمع من الناس:(أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت الذي علي؟ -أي: هل أخليت مسئوليتي باختيار الأفضل وتوصيته وأمره؟ - قالوا: نعم يا أمير المؤمنين! قال: لا؛ حتى أنظر في عمله: أعمل بما أمرته أم لا؟).