للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اليسر في دين الله سبحانه وتعالى]

السمة الثانية: اليسر في دين الله سبحانه وتعالى، وقد جاءت الآيات بينة واضحة في إرادته وقصده، ووصف الإسلام وتشريعاته به كما قال الحق جل وعلا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥]، وكما قال الحق سبحانه وتعالى في أصل هذا الدين، ونعمة الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:١٥٧].

إنها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ترفع الأغلال، وتضع الإصر والأحمال، بما جاء به من هذه الشريعة الميسرة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر فأوغلوا فيه برفق)، القائل هو أعظم الناس التزاماً بهذا الدين، وأكثرهم أخذاً بشرائعه وعباداته، ثم يقرر هذه الحقيقة: (إن هذا الدين يسر فأوغلوا فيه برفق)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً صفة بعثته ورسالته: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم من حديث عائشة.

وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الدين أجاب بقوله: (الحنيفية السمحة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات: (إن خير دينكم أيسره)، واليسر المقصود هنا الذي نقل لنا التزامه وتطبيقه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، ليس اليسر هو الترخص والتفريط الناشئ عن عجز الناس وخور هممهم، وضعف عزائمهم، وقلة تعلقهم بأمر الله وثوابه سبحانه وتعالى، فإن ذلك عجز وليس يسراً.

وهذا أمر مهم في كل ما نذكره أن المقياس والمرجع في فهم اليسر وتحديده هو الكتاب والسنة، والتطبيق العملي في سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي في أمثلة وجيزة نوردها هنا -بحسب المقام- يدلنا على أهمية هذا اليسر والالتزام به، فهو يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وكما قال في غير ذلك مثل هذا المعنى: (لما جاءه الرجل يشكو إطالة إمامهم في الصلاة حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وقال: أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة) رواه مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.

ثم نرى ذلك في صوره المختلفة، وتعاملاته المتنوعة، فعندما بعث معاذاً وأبا موسى الأشعري كانت وصيته الأولى لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وما أعظمها من وصية لكل من يريد أن يصلح الأمة أو أن يدعو أبناءها أو أن يحكم بينها! فلابد من تقديم اليسر على العسر، ولابد من تقديم التبشير على التنفير، ولابد كذلك من المطاوعة لا الاختلاف والمنازعة، وهذا أمر بين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد فيه أيضاً إلى آحاد الأفراد في أعمالهم: (رأى حبلاً متدلياً من سارية من سواري المسجد فسأل عنه فقالوا: حبل لـ زينب تصلي فإذا تعبت تعلقت به، فقال: ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد)، وهذا رد إلى اليسر.

(وذاك الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس، وألا يتكلم، وأن يحج ماشياً، ولا يستظل، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم والناس حوله قال: ما هذا؟ قالوا: رجل نذر كذا وكذا قال: مروه فليستظل، وليركب، فإن الله غني عن تعذيب هذا نفسه).

صورة من صور حماسة النفس أراد بها هذا الرجل أن يجعلها وسيلة للتقرب إلى الله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ورده إلى الأصل والحد المشروع الذي سيمته اليسر، وهذا أمر بين.

وحتى في علاج الأخطاء كان كذلك عليه الصلاة والسلام كما روى ابن مسعود فيما صح عند البخاري: (أن رجلاً أصاب قبلة من امرأة، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤]، فقال الرجل: أهذا لي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل لمن عمل بها من أمتي)، ولا يفهمن أحد من ذلك أنه ترخيص في ارتكاب الإثم أو دعوة إليه، أو تهوين له في نفوس الناس، ولكنه إدراك لطبيعة الإنسان، وما قد يقع منه أثناء غفلته أو شهوته، وأصل إيمانه داع له للندم والاعتراف، فتفتح له ما فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب المغفرة والرحمة، وإن كان أمراً مما يؤاخذ عليه الشرع بحد أو نحو ذلك أخذ به.

ولكنه مع ذلك أصل إيمانه في قلبه يدل على صدقه، وإخلاصه في توبته إلى الله سبحانه وتعالى، ولما جاء رجل من الناس قد شرب الخمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه؛ لأنه قد ارتكب كبيرته، وأقيم الحد عليه، قال الراوي: ومنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، ثم قال رجل: أخزاه الله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا عليه الشيطان).