[حكم محبة النبي صلى الله عليه وسلم]
ما عسى أن يكون حكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الوجوب؟! فهي واجبة على كل مسلم قطعاً ويقيناً، والأدلة على ثبوت وجوبها كثيرة، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى الذي جمع فيه في آية واحدة كل محبوبات الدنيا، وكل متعلقات القلوب، وكل مطامح النفوس ووضعها في كفة، وحب الله وحب رسوله في كفة فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٢٤].
قال القاضي عياض رحمه الله: فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً وبلاغةً وحجةً على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظيم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:٢٤]، ثم فسقهم بتمام الآية فقال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٢٤]، وأعلمهم أنه ممن ضل ولم يهده الله عز وجل.
فهذه آية عظيمة تبين أهمية ووجوب هذه المحبة، ويأتينا كذلك دليل آخر وهو عظيم وموجز وبليغ في قول الحق جل وعلا: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:٦].
ويبين ابن القيم رحمه الله الدلالة على وجوب هذه المحبة في هذه الآية من وجوه كثيرة، ضمنها أمرين اثنين: الأول: أن يكون أحب إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به منها، أي: أولى به من نفسه وأحب إليه منها.
فبذلك يحصل له اسم الإيمان، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم، وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه.
الثاني: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه التصرف إلا ما تصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى به من نفسه، أي: بما جاء به الله عز وجل وبلغه من آياته وأقامه ونشره من سنته صلى الله عليه وسلم، والآيات في هذا كثيرة.
أخي الكريم! الإيجاز هو مقصدنا في هذا، وإلا فإن قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:٣١] من الأدلة العظيمة الشاهدة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً لا نزاع أن محبة الله واجبة، وأن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته هو طريق إلى محبة الله كما سيأتي في قوله: (من أحبني فقد أحب الله) والآيات أكثر من أن تحصى في هذا المقال.
وأما أحاديث صلى الله عليه وسلم فصريحة جلية واضحة في الدلالة على وجوب هذه المحبة، ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله ووالده وولده والناس أجمعين)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكلنا يعرف الحديث الصحيح المشهور في قصة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما قال عمر: (يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا -والذي نفسي بيده- حتى أكون أحب إليك من نفسك.
فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي.
فقال: عليه الصلاة والسلام: الآن يا عمر).
ولم يكن قول عمر الأول أنه ليس محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه على حقيقته، إنما أخبر عن مقتضى الطبع، الأصل الطبعي في الإنسان أن أحب شيء إليه نفسه، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالمصطلح الإيماني أقر عمر بالمعنى الإيماني وبأنه يفضل ويحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، فقال له حينئذ صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر).
ومما يستدل به كذلك من هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
ثم إن حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار كما ذكر ذلك الإمام الخطابي، ولذلك عمر في جوابه الأول ذكر الطبع، ثم بعد ذلك ذكر فيه الاختيار الذي هو مقتضى الإيمان.
ومن هنا ذكر العلماء أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم على ضربين: أحدهما فرض، وهو المحبة التي تقتضي الإيمان بنبوته وبعثته، وتتلقى ما جاء به بالمحبة والقبول والرضا والتسليم، وثانيهما محبة مندوبة، وهي تقصي أحواله، ومتابعة سنته، والحرص على التزام أقواله وأفعاله قدر المستطاع والجهد والطاقة.
ومن الأدلة كذلك ما ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور المحفوظ: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار).
ومن الأحاديث حديث أنس عن الرجل الذي جاء سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم عاد إليه فقال: ما أعددت لها.
قال: حب الله ورسوله.
فقال: فإنك مع من أحببت)، وفي الرواية الأخرى قال الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنك مع من أحببت.
قال: أنس فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم).
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث جميل أخرجه مسلم في صحيحه، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله).
هذا الحديث ربما من اجتهد وجاهد قد يكون مقصوداً به؛ لأنه يخبر عمن جاء بعده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (من أشد الناس حباً لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله).
وحديث ابن عباس أيضاً قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي) رواه الترمذي في سننه وحسنه، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وكلنا محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة وجوب، ومحبة اختيار وتعظيم له عليه الصلاة والسلام، وأمر هذا الوجوب لا يحتاج إلى الأدلة، ولكننا نريد أن نعظم هذه المحبة في قلوبنا ونحن نرى الآيات التي تتلى إلى قيام الساعة توجب هذه المحبة وتبرزها عظيمة عالية في مقامها مقترنة بمحبة الله عز وجل، بل راجحة بكل ما تتعلق به القلوب من أنواع المحاب الدنيوية في شتى صورها وأنواعها، فعلنا حينئذ ندرك هذا، وندرك أيضاً عظمة هذا الوجوب عندما ندرك هذه النصوص القاطعة الواضحة في أن محبته ينبغي أن تكون أعظم من محبة النفس التي بين جنبيك، وأنفاسك التي تتردد، وقلبك الذي يخفق، فضلاً عن محبة الزوجة والأبناء، أو الأمهات والآباء، فما أعظم هذه المحبة التي هي أعظم محبة لمخلوق من بني آدم في الدنيا وفي الخليقة كلها، وهي التي استحقها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ووجبت على كل مؤمن مسلم لله سبحانه وتعالى.