واليوم وقد بدأت كثير من صور الانفتاح والدعوات إلى الإصلاح، أصبح الناس يخوضون فيها، ويركضون فيها خيولهم قبل أن يفكروا ويتأملوا، فإن الكلمة التي تكتب أو تقال، وإن الرأي الذي يقدم لابد أولا ً أن يكون فيه الفكر والتدبر والعلمية والمنهجية، ولابد أن يكون ناشئاً من النية الخالصة التي تريد المصلحة العامة، لا الأهواء أو المصالح الذاتية، ولا تصفية الحسابات الشخصية، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ}[هود:٨٨].
وكذلك لا ينبغي أن نقول قولاً ونخالفه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}[هود:٨٨]، كثيرة هي الأمور التي تطرح أحياناً، فهذه كاتبة -لا أتهم نيتها، ولا نريد أن نعيد الصراخ والهجوم- تكتب عن حديث:(لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، ثم لا تجد شيئاً من التفسير لتلوي عنقه، فتتجه إلى راوي الحديث أبي بكرة رضي الله عنه لتقول عنه: إنه رجل لا نسب له، وهو كذاب! فتقع في أمر خطير أحسب أنها لا تدرك عظمته وخطورته، إن الصحابة زكاهم القرآن تزكية واضحة صريحة ليس فيها لبس، وأجمعت جماهير علماء الأمة -بلا خلاف معتبر بينهم- أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم عدول، وأن الطاعن في أصحاب محمد إنما يطعن في القرآن، وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل في شخصه، إذ كيف يكون من أصحابه من هذه سماتهم، وتلك أوصافهم، ثم يكونون هم أعمدته، وهم معاونوه ووزراؤه، وولاته الذين استعان بهم في إقامة دين الله عز وجل؟! واستمعوا أيضاً إلى كاتبة أخرى فاضلة تريد أن تقول إنه قد أخطئ أنا ويخطئ غيري من العلماء، والرجوع إلى الحق فضيلة، فتضرب المثل بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وتعبر التعبيرات التي أحسب أنها أيضاً قضية خطيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، وهو سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم أجمعين، فإن تحدثنا عنه كما نتحدث عن أي إنسان فماذا بقي لنا؟ تقول الكاتبة: بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلم من عتاب الله له، ولومه على تصرف أتاه، أو رأي رآه، مع اختلاف لهجة العتاب من بين آية وأخرى، فمن عتاب لطيف تستشهد له بقول الله جل وعلا:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}[التوبة:٤٣].
وكنت أتمنى أن ترجعوا إلى كتب التفسير لتقرءوا ماذا قال العلماء في مثل هذه المقامات، والإشارة والدلالة على أن هذا العتاب إنما هو إجلال ورفع لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان كرامته ومنزلته عند ربه ومولاه سبحانه وتعالى، ولا يفهم من ذلك ما قد تشي به هذه الكاتبة.
ثم تقول: إلى صورة أخرى -أي: من العتاب- فيها توعد كما في قضية الأسرى، وتستشهد بقول الله جل وعلا:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}[الأنفال:٦٧]، وترى أن في هذا توعداً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، بل يبلغ الأمر أخطر من ذلك عندما تقول: إن لهجة الخطاب القرآني تعلو فيها نبرة اللوم في قوله جل وعلا: (َ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:٣٧].
ثم تزيد فتقول: وتتضح لهجة اللوم، ويكون فيها تجاهل لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترد كلمة نبي أو رسول، ولم تعد صيغة المخاطب هي الصيغة بل صيغة الغائب، وهذا أسلوب معلوم في اللغة العربية أن فيه ما فيه من اللوم، وتستشهد بقوله:{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس:١ - ٢].
وكلنا يعلم أن أهل العلم قد ذكروا أن هذا كان في خلاف الأولى، وأن كل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وأمضاه من الأحكام قد أقره الشرع عليه، وثبتت به الأحكام، وإلا لكان هناك رجوع، فهل رجع النبي صلى الله عليه وسلم عما أبرمه في قضية أسرى بدر؟! إن الكتابة المطلقة، وإن الانفتاح الذي تتبدى أروقته، وإن الإصلاح الذي ترفع راياته، ينبغي ألا يكون مندفعاً نخسر معه حقائق مهمة، ونخوض في قضايا تضرنا جميعاً، وأولئك القوم الذين يكتبون، حتى وإن كانوا يظنون أنهم في مواجهة آخرين قد أساءوا في طرحهم أو في تعبيرهم، فليعلموا أن القضية في آخر الأمر قضية ديننا، قضية هويتنا، إن مصالح أمتنا أن تتماسك، وأن تعرف حقائق ما يقويها ويحفظ عليها وحدتها، فهل إذا تخلينا عن ديننا ولغتنا وتاريخنا يمكن أن يكون لنا صبغة واحدة؟ سيتكلم هذا بلغة، وذاك بلغة، وذاك درس في بلاد، والآخر تخرج من أخرى، فسنكون شراذم، ولا يجمعنا ولن يجمعنا لا اليوم ولا غداً إلا دين الله عز وجل في بلاد الحرمين، ومهبط الوحي.
مع أننا نريد كذلك أن يكون فهمنا للدين صحيحاً، وأن يكون تشبثنا بالخصوصية تشبثاً واعياً، فالخلاف الفقهي ينبغي أن تتسع له الصدور ما دام قائماً على أسس علمية، وفي المجالات والميادين والقضايا التي يسوغ فيها الاجتهاد، فليس هناك أحادية رأي، وليس هناك حجر على من يرى رأياً أو مذهباًَ فقهياً، أو قضية مما وقع فيها اختلاف الأمة في تاريخها كله، ولكن ذلك لا يعني أن يدخل في الاختلاف شيء من غير ديننا كله، أو فكر لم يرد في قرآننا ولا في سنة نبينا، ولا في أقوال علمائنا، ولا في صفحات تاريخنا، فلا يجوز أن يقال: ما دمنا قد رحبنا بالحوار، أو ما دمنا قد فتحنا أبواب الإصلاح، أو ما دمنا قد رأينا ألا نحجر على الآراء، فينبغي أن نترك ذلك كله بدون خطام أو زمام! وأختم هذا المقام لأقول: إنه في كل ديار الدنيا لابد من حدود تؤطر المسموح، وتجعل له شيئاً من الممنوع، وكل دساتير الدنيا تقول: إن التعدي على دستور البلد أو رئاسة الدولة جريمة كبرى يحاكم عليها، ثم إذا جيء إلى دستور الإسلام، وإلى الشرع والحاكم بشرع الله عز وجل، كان التعدي عليه أمراً ميسوراً؛ إن هذا لشيء عجاب! نسأل الله عز وجل السلامة، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وهويتنا وأخلاقنا، وأن يدرأ عنا شرور الأشرار، وكيد الفجار، وأن يحفظ هذه البلاد من كل سوء وشر وضر، وأن يجعلها موئل الإسلام وأهله، وموضع دعوته ونشرها، ورفع رايتها في الآفاق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.