[الحرب الضروس على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
الثاني: وهو من عجائب ما يحير عقلي، ويكشف لي عن أمور تحتاج إلى شيء من المصارحة والوضوح، وهو أيضاً مما قص، ومما ذكر في وسائل الإعلام الصحفية على وجه الخصوص، ففي الآونة الأخيرة تذكر أخبار هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهودها المشكورة، وأعمالها المبرورة التي رأيناها في الواقع دائمة، وليست مؤقتة، ولكن الذي أظهره الإعلام في الصحف مؤخراً أنهم استطاعوا مرات ومرات أن يكتشفوا مثل هذه الجرائم في هذه الشبكات الأخلاقية المنحلة، وفي توزيع الخمور والمخدرات وغيرها، لكن عجبي! هو أن أحداً في الجملة لم يذكر لهم ذلك الخير، بينما ترى الكتاب ينتقدون الهيئة إذا أخطأ عضو من أعضائها في أسلوب من الأساليب أو في موقف من المواقف، فيقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ويكتبون على التشدد والتزمت والتطرف وغير ذلك، ويكتبون لنا عن الاعتداء على الحريات الشخصية، وعلى التنفير من الدين وغير ذلك، لم لا يكتبون عن هذه الجهود التي هي حماية لنا، ووقاية لأبنائنا، وسلامة لمجتمعنا، وحفظ لديننا وإيماننا وإسلامنا؟! لماذا لا تذكر إلا المثالب إن صح وقوعها؟! لماذا لا نكون صرحاء؟! لماذا نشعر حينئذ بأن الأمر إنما هو تلمس المعايب وتتبع القبائح على افتراض وجودها مع أن غاية ما يقال فيها: إنها أخطاء اجتهادية أو ممارسات فردية؟! إن ذلك يدلنا على أن كثيراً من هذا الزخم الإعلامي ليس معنياً في الحقيقة لمصلحة المجتمع، ولا بالأثر الإيجابي فيه بقدر ما يعبر فيه أولئك الكتاب عن ذواتهم وأهوائهم ونزواتهم ورغباتهم وآرائهم الشخصية، ضاربين عرض الحائط بالمجتمع ومصالحه وكل ما يتعلق به، وهذه مسألة خطيرة مهمة، وهذا أمر ينبغي لنا نحن ألا نكون كذلك، ينبغي أن نشكر الله عز وجل ونحمده على كل من يقوم بأمر بمعروف ونهي عن منكر؛ لأنه يدفع عنا سخط الله وعذابه؛ لأنه يدفع عنا فتنة وبلاء؛ لأنه يكون سبباً من أسباب نجاتنا وعدم استحقاقنا للعذاب، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أجر ومدح من الله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:١٠٤].
إن الفلاح في ذلك، وإن الأثر المحمود دنيا وأخرى في ذلك: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:١١٠] ليست لنا خيرية إلا بأداء شرط هذه الأمة وسمتها في قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:٧١].
من أراد رحمة الله فذلك طريقه، وفي الوقت نفسه مقابل ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدح واستحقاق للعذاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:٧٨].
قال الزمخشري معقباً على مثل هذا الأمر: فيا حسرة على المسلمين! -والزمخشري في القرن السادس الهجري أي: قبل نحو تسعة قرون من تاريخنا هذا- في إعراضهم عن التناهي عن المنكر، وقلة عبئهم به، وكأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب.
أي: من المبالغات في التشديد في هذا الباب.
والفتنة والعذاب لازمة عند ترك هذه الشعيرة المهمة العظيمة، وهي التي قد نفسر بها كثيراً مما هو واقع بنا، كما قال الحق جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥].
ستعم كما بين ذلك أهل التفسير، لا تصيب الظالمين بل تصيب معهم غيرهم ممن لم يغير المنكر ولم ينه عنه، وإن كان لم يظلم كما قاله ابن جزي في تفسيره، والحق جل وعلا يقول: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:١١٦].
والتسلسل يمضي لئن لم ننكر فسيكون الجيل من بعدنا في حال أسوأ منا، والمجتمع يغرق في هذه المعاصي والسيئات، ويأتي جيل فيقصر أكثر؛ فيكون الأثر من بعده أعظم، ولله سبحانه وتعالى في ذلك سنة ماضية: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:١١٦].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الذي يرويه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم.
والأمر في هذا يطول، قال ابن العربي رحمه الله في هذا المعنى: وهذا من الفقه العظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل بها إلى الآخرة، وإن السكوت على المنكرات تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق.
نسأل الله عز وجل السلامة! وهذا حديث حذيفة أختم به هذا المقام روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم) رواه الترمذي.
نسأل الله عز وجل أن يصرف عن السوء والفحشاء، وأن يحفظ علينا في مجتمعنا إيماننا وإسلامنا، وأخلاقنا وذرياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.