للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نفوس تواقة إلى الشهادة في سبيل الله]

ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـ سعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد؟ فجاء قول سعد: لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً.

فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: (يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا - فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله).

وقام إياس بن أوس وقال: (نحن بني عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله).

مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجعا بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال.

أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثيراً من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق! لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واها لريح الجنة! والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع).