ذكر أهل العلم للتوبة شروطاً، إلا أن التفكر فيها يزيد من عظمة هذه التوبة وأثرها في الأوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وزيادة الإيمان، ورفع الدرجات عند الرحمن سبحانه وتعالى.
أولاها: الإقلاع عن الذنب وعلامته: المفارقة الفورية، والإقلاع النهائي، والعزم السريع على هذا الفعل في تخلص العبد مما يحجبه عن ربه، وتقع به ظلمة قلبه.
ثانيها: الندم: وعلامته: طول الحزن على ما فات وسلف من التفريط.
سئل سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: أي الأعمال أكثر عبودية لله؟ وأي العباد أشد قرباً من الله؟ فما قال: المصلي ولا الذاكر ولا التالي، وإنما قال:(رجل اجترح ذنباً؛ فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه)، ما يزال أثر الندم يقود إلى دوام الحزن والألم، وإلى مزيد من الذكر والاستغفار، وإلى مزيد من طلب التوبة من الله سبحانه وتعالى؛ فيتجدد للعبد حينئذ عبودية ترقى به إلى أسمى مراتب العباد، ولذا فقه السلف الصالح رضوان الله عليهم هذا فعلموا صدقه وعلموا عظمته فقال قائلهم كما قال سعيد بن جبير: إن أعلى المراتب: رجل اجترح ذنباً؛ فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه.
ثالثها: على الطاعة، وعلى عدم العود إلى المعصية: وعلامته: التدارك لما فات، تحقيقاً لقوله عز وجل:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود:١١٤].
ولقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:(وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
وعلى الإنسان أن يتحلل من مظالم الناس، وأن يؤدي حقوق الناس، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)، رواه البخاري في صحيحه.
فهذه المعاني كل واحد منها هو معنى من معاني العبودية يتحقق في القلب، وتعمر به النفس؛ سواء كان سبب الإقلاع الخوف من الله، أو الحياء منه، أو الندم؛ فما وقر في قلبك إلا من أثر الخشية من الله عز وجل، أو العزم والعمل؛ فما وقع إلا رغبة منك في إثبات العبودية لله، أو البراءة من الحقوق، فلم يقع منك إلا لأثر هذا الذنب الذي تخشاه في أخراك.
والله سبحانه وتعالى قد دعانا وأمرنا، وهو الغني عنا الذي لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، لكنه جل وعلا من رحمته ومن محبته لعباده المؤمنين ناداهم بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[التحريم:٨]، أي عظمة أعظم من هذا النداء الذي فيه تلطف وتحبب وتقرب للعباد بوصفهم بهذا الوصف؟ إنه وصف الإيمان الذي يحبونه ويرون فيه شرفهم وعزتهم، وكذلك يستدعي الله عز وجل بهذا النداء عزم أهل الإيمان؛ لأن للإيمان متطلبات ومقتضيات، أولها: سرعة ودوام واستمرار الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}[التحريم:٨].