[قضية فلسطين في عقيدة الأمة الإسلامية]
الحمد لله، الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، له الحمد سبحانه وتعالى؛ خلق فسوى وقدر فهدى، وجعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، وجعل الدائرة على الكافرين؛ له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الجراح كثيرة، ولكننا نعلم أن بعضاً أخطر من بعض، وجرح القدم ليس مثل جرح في البطن، وليس هذا مثل جرح في الرأس، ولا يمكن أن تقاس هذه الجراحات كلها بجرح في القلب يوشك أن يكون سبباً للوفاة، قال ابن القيم رحمه الله: (الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل)، نشرق ونغرب، نتحدث عن جرح نازف هنا أو هناك، نتحدث عن مأساة في العراق أو عن مشكلة وقضية في الشيشان، ونذهب يمنة ويسرة لكن قضية القلب، قضية الأثافي، ومحور الصراع، وقطب الرحى، وملتقى المعارضة والمواجهة الدينية العقدية، والصراعات الحضارية الثقافية لابد لنا دائماً وأبداً أن نعيد القول فيها ونزيد، ولابد أن ندرك عظمة أهميتها.
والقضية الأكثر خطراً، والأعظم أهمية: قضية فلسطين وبيت المقدس ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى الذي فتحه الصحابة ورووه بدمائهم في سبيل الله، هذه القضية الفلسطينية التي ما يجري شيء في واقعنا المعاصر إلا وله صلة بها، وهي أساس فيه؛ حتى مأساتنا القريبة التي تحدثنا عنها وزدنا القول فيها إنما هي حدث ضخم كبير طريقه وجسره إلى قلب الأمة في أرض فلسطين.
ولعل كل عاقل يدرك بجلاء ووضوح ما هو جلي رأي العين، ودويه ملء الآذان فيما يجري الآن؛ فقضية فلسطين مرتبطة دون فاصل زمني ودون تباعد سياسي، ودون مغالطات أو مداورات بين ذلك الحدث العظيم وما يدبر ويضغط على تحقيقه في أرض فلسطين، ودعك من هذه الأسماء التي تدور هنا وهناك، ولسنا في مقام هذا المنبر نتحدث عن الأحداث كنشرة إخبارية ولا عن الوقائع كتحليلات سياسية؛ فمنطقنا عقيدة إيمانية، وحديثنا آيات قرآنية، وأخبارنا أحاديث نبوية، وتقريرنا وقائع تاريخية، وشواهدنا حقائق واقعية.
ينبغي أن ندرك تلك الحقائق أولاً، وأن نعيها، وقد قلناها من قبل ولكنه لابد من إعادتها وتكرارها، لأننا لا ينبغي أن ننصرف إلى بنيات الطريق، ولا ينبغي أن ننشغل بالجراح الجانبية مهما عظمت وننسى الجرح الأكبر؛ إنه ليس من العقل أن نفرغ جهودنا لعلاج الأقدام وجروحها، أو البطون وشقوقها أو غير ذلك وننسى علاج القلب الذي إن وقف نبضه فلن يجدي شيء بعد ذلك.
قضيتنا الأولى قضية إيمان وعقيدة، إنها ليست قضية أرض وطين ومفاوضات سياسية، ولا قضية دول وسلطة ذاتية وغير ذاتية؛ إنها قضية آيات قرآنية؛ قبلة المسلمين الأولى التي توجه إليها النبي صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام نحو ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:١٤٣]، فخاض في ذلك اليهود -عليهم لعائن الله- منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إما أن قبلتك الأولى صحيحة فانصرفت إلى باطل، وإما أنها ليست صحيحة فكنت على ضلال، فأنزل الله سبحانه وتعالى ما يرد مقالتهم، ويبطل إرجافهم، وثبت أهل الإيمان على أمره سبحانه وتعالى.
ومن بعد ذلك كانت تلك البلاد مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسري به من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى ليصلي بالأنبياء إماماً، ثم يكون عروجه إلى السماء منها عليه الصلاة والسلام، ليدل ذلك على وراثة الإسلام لكل الرسالة والأديان، وعلى إمامة المصطفى صلى الله عليه وسلم لسائر الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وليظهر أن الإسلام هو الدين الأحق بأرض النبوات، وتاريخ العقائد والديانات الربانية الإلهية بعد أن تنكر لها وجحد رسلها، وحرف كتبها اليهود -عليهم لعائن الله- وضل في الضلال من كان كذلك من النصارى.
ثم من بعد ذلك الفضيلة الثابتة الدائمة التي لم ترتبط بتاريخ ولا بوقت بعينه: (لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى)، إنها استثناءات قالها سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، إنه تعبد شرعه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، إنه دين لا يملك أحد تغييره ولا تبديله، وفي حديث أبي ذر في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت بني لله عز وجل؟ فقال: البيت الحرام، قيل: ثم أي؟ قال: بيت المقدس)، فنحن عندما ننظر إلى هذه الأصول، نعرف أن هذه هي الأرض التي باركها الله عز وجل، وجاءت الآيات تترا في كتاب الله تبين ذلك: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:١]، وهي الأرض المباركة التي يبقى ويظل لها صلتها وارتباطها بالإسلام إلى آخر الزمان وإلى قرب قيام الساعة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد مسند أبيه، والطبراني بسند رجاله ثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأوى -أي: من أذىً وضر في تلك المواجهات- قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أحاديث شتى، وأخبر أن: (عمود الكتاب رفع، قيل: أين ذهب به يا رسول الله؟ قال: إلى بلاد الشام).
مرة أخرى أيها الإخوة! تلك آيات تتلى، وأحاديث تروى هل تنسخها السياسية القذرة؟ هل تنسخها المفاوضات الدنيئة؟ هل ينسخها الرجال الأقزام؟ إن رضينا بذلك فإننا نرضى لأن ننسخ جزءاً من إيماننا وعقيدتنا، وأن نلغي حقائق مذخورة مكتوبة محفورة في كتاب ربنا وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فلننتبه لذلك ولننظر اليوم إلى صفحات التاريخ المشرقة ونحن نعرفها، لكننا نريد أن نقول: إن هذا القرآن والسنة كانت ملء قلوب أسلافنا؛ فعرفوا كيف يتوجهون على مراد الله، وعلى منهج الإسلام، وعلى درب الجهاد، وعلى طريق العزة، وعلى إقامة الحق ورفع رايته.
يوم فتحها عمر رضي الله عنه فتحاً عظيماً ليس في التاريخ له مثيل، فتح قوة الإيمان أمام أباطيل الكفر وانحرافاته، فتح قوة الحق أمام أراجيف الباطل وظلماته، فتح قوة الحضارة أمام الهمجية، وفتح نور الإسلام أمام تلك الظلمات العظيمة، فتح العدالة التي ألغت الظلم، فتح السلم الذي عم بخيره الناس جميعاً، وكانت معاهدة عمر التي أثبتت سماحة الإسلام، وأظهرت ترجمته العملية في واقع الأمة الإسلامية، وكانت تلك الصورة الحضارية العظيمة لأمة الإسلام يوم كانت على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن بعد ذلك جاء تحرير صلاح الدين بعد عقود وقرون متتالية فجدد ذلك العهد الأول، وأثبت أن منهج الإسلام لا يتغير، وأن الحقائق فيه لا تتبدل، وأن أراجيف اليوم إنما هي كذب وافتراء روجته وسائل الإعلام الصهيونية، ورددته -وللأسف- وراءها وسائل الإعلام العربية والإسلامية، وراجت تلك الفتن والأباطيل، وأصبحت اليوم من المسلمات، حتى نظرنا اليوم فإذا بنا نرى العقد ينفرط حبة حبة، ويوشك -إلا من رحمه الله- ألا يبقى فيه حبة.
منذ سنة ٤٨ ضيعوا وضيعت الأمة شطراً من القدس، ولحقها الباقي في ٦٧، وتوالى من بعد ذلك ما يراد له أن يضيع في دهاليز السياسية والمفاوضات عبر تلك الألاعيب والأحاييل التي تضيع حق الإسلام والمسلمين في أرضهم وديارهم، بل في عقيدتهم ودينهم.