ولنأخذ الصور المقابلة، ولنأخذ الفهم الصائب، ولنأخذ الروح الإيمانية الجدية العملية القوية التي نقتبس بعض صورها من كلام أئمتنا وعلمائنا ومواقفهم ومآثرهم في مثل هذا الشأن: قال عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:٧ - ٨]، وهذه آيات نقرؤها كثيراً.
قال ابن كثير: إذا فرغت من شأن الدنيا وأحوال العباد فانصب لعبادة ربك، فإذا فرغت فاعمل؛ فليس هناك فراغ، وليس هناك وقت لإضاعته أو قتله، أو البقاء ساعات طوالاً في لعب الورق، أو مشاهدة المسلسلات، أو قضاء الأوقات بالأحاديث اللاغية الباطلة.
وقوله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}[الشرح:٧]، يدل على أنه يُوجد بعد الفراغ نصب وجد وتعب، فأين إذاً تلك الراحة؟! إن الراحة لا تكون إلا بعد الجد والعمل، وحديث (ساعة وساعة) فهمناه في كثير من صور حياتنا فهماً خاطئاً، وقصته في السيرة وعند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على غير ذلك الفهم؛ فقد جاء عنهم أنهم قالوا:(يا رسول الله! إنا إذا كنا معك كأنا نرى الجنة والنار، فإذا انصرفنا إلى أهلنا وعافسنا الأزواج والأبناء أنكرنا نفوسنا).
إنه شعور إيماني دقيق شفاف حساس، يجعلهم يرون الفرق بين ما هم عليه عند صحبة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم من إيمان قوي، وروح محلقة، وهمة عالية، ونفس أبية، وقوة فتية، وما قد ينحدرون إليه عندما ينشغلون بحياتهم وأهلهم وأزواجهم، فقال صلى الله عليه وسلم:(لو تدومون على حالكم التي تكونون فيها معي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، فتلك هي الساعتان، ليستا ساعة لهو وعبث ومعصية ومنكر، وساعة استغفار وقليل من صالح الأعمال هنا أو هناك.
ثم انظر إلى تأكيد هذه المعاني في كلام كثير انتخبت قليلاً منه بعد أن وجدت أن كلماته كأنما هي إيقاظ لكل واحد منا، لننظر كيف فهم وكيف ترجم علماؤنا هذه المعاني القرآنية؟ يقول القرطبي ناقلاً عن مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.
وعن الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق فاجتهد في عبادة الحق.
والشنقيطي رحمه الله من العلماء المتأخرين في عصرنا يقول: الآية حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم؛ حيث لم تترك للمسلم فراغاً في وقته؛ لأنه إما في عمل للدنيا، وإما في عمل للآخرة.
وقد روي عن ابن عباس: أنه مر على رجلين يتصارعان فقال: (ما بهذا أمرنا بعد فراغنا).
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:(إني لأكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً، ليس في عمل دنيا ولا دين).