عن عائشة رضي الله عنها قالت:(كان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)، فالاعتكاف سنة مؤكدة.
قال الإمام أحمد: لا أعلم خلافاً بين العلماء في سنية الاعتكاف.
وقال ابن العربي: هي سنة مؤكدة.
وقال ابن بطال: في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكد الاعتكاف.
بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أنه اعتكف، وضرب له خباء في المسجد، فاستأذنه بعض أزواجه فضربت لها خباء -أي: لتعتكف-، ثم جاءت الأخرى، ثم الثالثة، فلما رأى كثرة ذلك قال: آلبر تردن؟!) ثم نقض معتكفه، وترك اعتكافه حتى لا يكون ذلك واجباً، ولا يكون هذا الاجتماع من النساء، ثم قضى اعتكافه في عشر أخرى من شهر شوال، وذلك القضاء يدل على تأكد هذه السنة الماضية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت:(ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في ذلك الشهر، ثم اعتكف في عشر من شهر شوال) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يوماً) وذلك يدلنا على فضيلة عظيمة حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم -وقد دنا أجله- أن يستكثر من هذه الفضيلة، وأن يعظم من ذلك الأجر، وأن يكثر من الإخبات والإقبال على الله سبحانه وتعالى، وذلك مؤذن بأهمية هذه العشر، وأهمية سنة الاعتكاف فيها، وما أعجب وأوجز ما قالته عائشة رضي الله عنها في هذا الوصف الجميل الدقيق العجيب:(كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها) وكأنها تقول لنا: قارنوا بشيء معروف.
وقد ثبت عنها وعن غيرها من الصحابة صفة لياليه صلى الله عليه وسلم، وأنه (كان يقوم حتى تتفطر قدماه) وأنه صلى الله عليه وسلم (لم يترك قيام الليل في سفر ولا حضر) وأنه منذ أن أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:١ - ٢] لم يترك ذلك مطلقاً، وإذا ترك القيام لمرضه كان يقضيه في نهاره، فتأمل هذا الوصف الموجز لـ عائشة:(كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها)، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فكيف لنا أن نتصور زيادة على مثل هذا الذي ثبت وأثر عنه، وهو بعد ذلك يزيد عليه لأنها ليال فاضلة فيها من الزيادة في الأجر والاختصاص في محو الوزر ما ليس في غيرها مطلقاً، ولذلك كان يخصها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليالي بمثل هذه العبادة، وهي الاعتكاف، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا بصوم، وإن كان الصحيح جوازه بدون صيام، لكنه في الصوم وفي رمضان آكد وأعظم في الأجر؛ لاجتماع صور العبادة كلها في ذلك الاعتكاف.